لم ينظر اللبنانيون يوما، الى المملكة العربية السعودية على انها قوة عظمى عسكرية أو علمية. فلا أساطيل لديها، ولا جيش جراراً ولا قواعد حربية أو بحرية، ولا “نازا” ومراكز دراسات وأبحاث، والأهم لا أطماع برية أو فضائية. لكنها كانت باستمرار قطبا عربيا، أحيانا أوحد، ليس بسبب كاريزما قومية، كمصر عبد الناصر، ولا بسبب تركيبة حزبية كالبعث العفلقي.
السعودية قطب عربي دائم، إما كأحد طرفي توازن، كما مع الناصرية، أو بسبب احتضان “ذكي” كما مع الثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، أو في مواجهة اطماع إقليمية، إسرائيلية وايرانية، لكن دائما لكونها لا تتردد في المبادرة والانجاد، لا سيما حين تدهم المخاطر أسس الحضور العربي أو الاسلامي.
كانت هذه الادوار تمنح السعودية حيزا لبنانيا، تتسع مساحته، أو تصغر، بالتوازي مع الخصم المواجه.
لكن الغالب، لا سيما بعد اتفاق الطائف، ان المملكة باتت حليفا حاضنا للبنان، ولكل اللبنانيين، حتى حين خاصمت “الحزب الحاكم” يوم ادخل البلاد في مغامرة حرب 2006، المدمرة، ولم يمنعها ذلك من ان تغطي اكثر من نصف نفقات إعادة الاعمار المعلنة، فيما سُرّب المال الايراني من وراء ظهر الدولة.
استمر المشهد حتى سقوط “السين – سين” بإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في النصف الاول من كانون الثاني 2011: انكفأت المملكة عن لبنان جملة وتفصيلا. ظهر خلفها وآخر اهتماماتها، وهو البلد الوحيد الذي يعطي سياستها العربية مدى استراتيجيا شعبيا، باقتناع عموم جماعاته. وهو ليس مصر أو سوريا، أو الاردن، أو المغرب، أو الجزائر وتونس، التي تماشي الرياض، أو لا تماشيها، بقرار حكومي، كما انه ليس من دول مجلس التعاون الخليجي التي تتشابه، مبدئيا، شعوبا ومصالح ونفطا، ومخاطر.
لبنان هو المقياس الشعبي الفعلي الوحيد لدور السعودية العربي، ونبض موقعها السياسي الاستراتيجي، خارج الجزيرة العربية، فماذا يقول اليوم؟
عودة السفير علي عواض عسيري إلى بيروت، وتاليا، تأخير إعادة تسلمه السفارة السعودية في باكستان، التي تعيش ومنطقتها حذرا سياسيا، ليواكب مرحلة مخاض ولادة رئيس الجمهورية، يوضح أن الرياض قطعت مع مرحلة الترقب السابقة، وشملت الوضع اللبناني بـنهجها الذي اختطته منذ امتنعت عن تسلم مقعدها في مجلس الأمن الدولي، وألحقته بمبادرتها في الحدث اليمني، وفي البحرين، وبتأييد تجديد “ثورة يناير” المصرية في وجه محاولة “الإخوان المسلمين” السطو عليها، وبدعم ثورة الشعب السوري ضد ديكتاتورية الأسد.
مارست السعودية، باستمرار، “ديبلوماسية القوة الهادئة” التي كانت بالكاد تُظهر حيويتها وفاعليتها، لكنها فاجأت العالم، تحديدا منذ بدء المفاوضات الدولية في الملف النووي الإيراني، بإضفاء دينامية حاسمة عليها، أعادت الوزن السياسي الفعلي لهوية المنطقة العربية.
لبنان اليوم، امتحان لدينامية ديبلوماسية القوة الهادئة السعودية.