لم تكن الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً، حين وصل إلى منزله. أراد هذه الليلة أن يبتعد عن كل الضجيج الذي يحاصره. صخب بيروت المضحك المبكي. زحمة المناسبات الاجتماعية ورياؤها. لعنة الدم والنار التي تلاحق جيش بلاده. الصيف الدموي الملتهب. صور أولاد لا يعرفهم، يسبحون بدمائهم… لا أمل يلوح في الأفق. يشعر باختناق رهيب. يشعر وكأنه داخل نفق مظلم، فيما يبحث من غير جدوى عن نافذة ضوء، ولو بسيط.
حقاً، لا أمل يلوح في الأفق. وحده ابنه يبعث في قلبه دفئاً ممزوجاً بكثير من القلق. الليلة، يريد أن يخصص بعض الوقت لولده الذي أطفأ قبل أيام قليلة شمعته السابعة. مضى زمن طويل لم يجلس فيه معه. هذا المساء يريد التعويض. كلا، لن يصل متأخراً. لن يكتفي بطرح بعض الاسئلة الروتينية على زوجته، مستسفراً عن يوميات تمضيها وابنهما بعيداً منه، هو الغارق في العمل وضغوطه. لن يكتفي بطبع قبلة على وجنة صغيره النائم. الليلة، لن ينام الأخير قبل أن يكمل والده الحكاية. جلس بالقرب منه. راح يداعب شعره. غفا الابن وقبل أن تنتهي الحكاية. لم يكن سهلاً على الأب في كل الأحوال أن يصل إلى الخاتمة. أفكاره مشوشة. كلماته يهتدي إليها بصعوبة. هواجس الأيام المقبلة تثير فيه رعباً كبيراً. بقي يداعب شعر صغيره. صحيح أنه نائم، لكن الأب قرر أن يسرد له حكاية أخرى.
يا صغيري، غداً عندما تكبر، ستكره قصص الأطفال. ستعرف أن أحداثها الملونة يستحيل أن تجري على هذه الأرض. هنا، لا تنتهي الحكايات دائماً نهايات سعيدة. الأشرار لا يموتون بالضرورة، والأبطال قد لا ينتصرون. ستعرف أن المفردات تحمل معاني ملتبسة، بخلاف ما يلقنونكم في الكتب.
الحب سيصبح مرادفاً للمصلحة، والخداع سيصبح من الخصال الحميدة، فيما خيانة الوطن، الحبيب، ستصبح مجرد وجهة نظر… الوطن بحد ذاته، سيحمل أكثر من صورة: واحدة مشتهاة في مخيلتك، وأخرى قاتمة تعيشها على أرض الواقع.
غداً عندما ستكبر، ستلحظ أن الأطفال لا يضحكون دائماً. ستشاهد شبح الموت يزورهم باستمرار. سترى كثيراً من الأولاد والشبان يموتون، من غير أن تعرف لماذا يموتون، ومن غير أن تحرك ساكناً أيضاً. ستكره نفسك ألف مرة. ستخجل من ضعفك وتخاذلك، لأنك تعيش هاجس الخوف على طفل واحد هو ابنك، بينما آلاف الاطفال حولك كل يوم يقتلون. غداً، عندما ستكبر، سوف تشكرني وتلعنني لأني أنجبتك على هذه البقعة من الأرض. سيتحول القلق رفيقك الدائم. ستحب بقلق، وتنتصر وتنكسر بقلق، وتتنفس وتنام وتأكل وحتى تضحك بقلق. الاستقرار مفردة ستتعلمها في الكتب فقط.
غداً، عندما تكبر ستخوض المغامرات وتفشل ثم تنجح وتعتقد أنك تعلمت. لكنك، ستعيد بفرح الخطأ نفسه ولن تتعلم! غداً أيضاً، ولأنك تعيش هنا، ستشعر في لحظةٍ ما بأنك بطل. ستدبّ فيك قوة رهيبة يوم ستحمل طفلك للمرة الأولى بين يديك… قبل أن تعود وتكتشف أنه – يوم وُلِد وأصبحت مسؤولاً عنه ومجبراً على حمايته – جعلك أضعف مخلوقات الارض.
هذه المرة انتهت الحكاية. هي حكاية وهمية يعيشها ذاك الرجل في كل مرّة تتعب فيها مخيلته من مشاهد الدم المتناثر في كل مكان. هي هواجس تعترضه حين يتخيل تلك اللحظة التي سيحمل فيها ابنه المستقبلي للمرة الأولى بين يديه، ويتحوّل بسببه أحد أضعف مخلوقات الأرض.