لمناسبة مونديال فرنسا، أفردت «لوموند»، في أيار 1998، عدداً كاملاً من دوريتها المتخصصة، «مانيير دو فوار» (أو «طريقة في الرؤية»)، للبحث في ما صارت عليه الرياضة في عالم اليوم، وتحديداً رياضة كرة القدم. أكثر من مئة صفحة من الأبحاث في الاقتصاد والسياسة والدبلوماسية والتاريخ وعلم النفس الاجتماعي وسوسيولوجيا الأفراد والجماعات …
يخلص القارئ بعد التمعن فيها إلى أن ذلك الفن الجميل وتلك الهواية الشعبية، اللذين غالباً ما سكنا أطفال الأحياء الفقيرة وعشعشا في رمل شواطئ المحرومين وأحذية الأزقة الممزقة، قد انقرضا منذ زمن. ولم يبق منهما فعلياً في رياضة اليوم، في كرة القدم الراهنة، وتحديداً في مونديال هذا الزمن، إلا أمر من ثلاثة: إما «بيزنس» جديد، وإما تعبير تعويضي عن وجدانات الجماعات في الدول المعطوبة أو المجتمعات المركبة والمريضة، وإما شكل مستجد ومبتكر من سياسات الدول الحديثة. الدول التي تتوسل كل نشاط بشري، من الفن إلى الرياضة، لتجعل منه سياسة دولتية رسمية وبروباغاندا نظامية و«جهازاً» إعلامياً تسويقياً آخر، يضاف إلى باقي «أجهزتها»، تماماً مثل المخابرات والتجسس الصناعي والإعلام وغيرها.
جانب البيزنس من المونديال تختصره أرقام بسيطة: موازنة الاتحاد الدولي، «فيفا»، كانت سنة 1998 أكثر من 250 مليار دولار. كلفة المونديال قبل 16 عاماً كانت أكثر من 4 مليارات. عدد لاعبي الكرة في العالم نحو 162 مليون لاعب. في الدول الفقيرة والنامية غالبيتهم غير محترفين. بينما في أوروبا كان هناك 6 ملايين غير محترف في مقابل 21 مليون محترف. أرقام انتقال اللاعبين أكبر من أي صناعة عالمية اليوم. كرة القدم وحدها كانت سنة 1998 مصدر رزق وعمل لنحو 200 مليون إنسان، بين لاعب وإداري وتقني ومستثمر وإعلامي وإعلاني وغيره… بينهم طبعاً أكثر من 10 آلاف طفل يصنعون كرات اللعبة الجلدية في وادي سيالكوت في باكستان، في ظروف شبه عبودية… إنها «صناعة المونديال» بكل تفاصيلها وملحقاتها. وصولاً إلى أكسسوارات كل بيزنس، من الرشوة والفساد وتبييض الأموال والتهرب من الضرائب وتجارة المخدرات التي تعتمد عليها كارتلات كولومبيا، بعد دراسة تسويقية أكدت زيادة استهلاكها بشكل كبير في زمن المونديال!
أما جانب الرياضة وكرة القدم كتعبير عن وجدان جماعة في دولة معطوبة، فأمر يكاد يختزله واقع فريق برشلونه في تعبيره عن وجدان «الأمة الكاتالونية». الكل يعلم كيف بدأت القصة في زمن ديكتاتورية بريمو دي ريفيرا وبعده الجنرال فرانكو، بانيَي اسبانيا الملكية التوتاليتارية الشديدة المركزية. يومها كانت الكاتالونيون بحاجة إلى متنفس للتعبير عن ذاتيتهم المقموعة، عن راياتهم الممنوعة وعن أناشيدهم المحظورة. فتحولت كل تلك إلى ملعب «برشا»، في مواجهة «ريال مدريد» رمز النظام. صار النادي رمزاً للأمة، والساحة الوحيدة المتاحة للمعركة المنشودة والمستحيلة. حتى قيل إن سقوط نظام فرانكو لم يبدأ مع اغتيال خليفته المرجح، كاريرو بلانكو، في كانون الأول 1973، بل يوم انتصر البرشا على ريال بنتيجة 5- صفر، على أرض عاصمة النظام بالذات في شباط 74.
مثل برشا كاتالونيا تعرفه جماعات كثيرة أخرى. في إيطاليا كانت ضربة جزاء غير محسوبة في مباراة جوفنتوس وإنتر موضع صراع عنيف في البرلمان. في يوغوسلافيا تحوّلت مباريات النجم الأحمر بلغراد ودينامو زغرب تعويضاً دائماً عن حروب الصرب والكروات. والأمر نفسه بأشكال مختلفة ودرجات متعددة في مختلف الدول والأنظمة.
تبقى الرياضة كنشاط دولتي، يكفي أن نتذكر الأمثلة التي لا تحصى، من دبلوماسية البينغ بونغ بين نيكسون وماو، إلى انتصار الريغانية على الاتحاد السوفياتي في نهائي هوكي أولمبياد لوس أنجلوس، وصولاً إلى حرب كرة القدم الشهيرة في أميركا الوسطى، بين سلفادور وهوندوراس سنة 1968، انتهاء بفضيحة مونديال قطر الأخيرة وتداعياتها الدولية والقضائية التي لم تنته…
كل هذا موجود في عالم الكرة في عالم اليوم. أما لبنان ففي عالم آخر. هستيريا كروية غير موصوفة، ولا مثيل لها في أي بلد آخر غير معني بالمونديال في العالم. شيء من المرض والهوس والجنون. فالمونديال في لبنان لا علاقة له بجانب البيزنس، ولا هو مرتبط بوجدان أي جماعة، ولا تتحكم به أي من سياسات دولتنا الافتراضية. لماذا هستيريا المونديال عندنا؟ إنه بكل بساطة، عارض آخر من عوارض أزمة الهوية في وطننا وبين ناسنا وعند كل فرد منا. هو تعبير مطابق لتعبيرات مرضنا الأخرى. مثل أن نكون الشعب الوحيد في العالم الذي لم يعد يملك «لغة أماً». بين «اللبنانية» الهجينة كلغة، وبين العربية المجهولة، وبين الفرنسة والأمركة، صرنا شعباً لا يعرف طفله ما هي لغته الأم ولا حتى لغة أمه. مع ما لهذا الواقع من تداعيات خطيرة على شخصية الفرد والجماعة. هستيريا المونديال عندنا، هي مثل كوننا البلد الوحيد في العالم، حيث الفرد في سكيزوفرينيا مستدامة بين حلقات انتماءاته المشلّعة، وحيث الحس المدني مفلوع. تراه كاملاً عند المسافر اللبناني المنتظم في الصف الطويل في مطار لارنكا، ويتحول معدوماً فوضوياً مطلقاً بعد تحليق ربع ساعة فقط في مطار بيروت. هستيريا المونديال هي شيء مطابق لرسوب كل طلابنا في امتحانات اللغة العربية، ولأمية سياسيينا حتى في قراءة ما يكتبه لهم آخر من يجيد الكتابة في هذا البلد. وهي شيء من تفاهة إعلامنا وجهالة زمن المقدمات والمؤخرات.
قبل ثلاثين عاماً بالتمام، اعتقد بعض ميثاقيينا أنهم حلوا أزمة الهوية عندنا، يوم كتبوا تلك العبارة التي صارت لاحقاً دستوراً، أننا بلد «عربي الهوية والانتماء». بمعزل عن تحديد معنى «عربي» وتوصيف ما تبقى من زمن القوميات الديناصوري، الأكيد أن هستيريا المونديال عندنا، بما هي تعبير عن أزمة كيانية عميقة، تفرض أن نكتب في دستورنا، أننا بلد «عدمي» الهوية والانتماء!