مهما قيل وكتب عن الانقلاب الذي نفذه جون كيري في بيروت على سياسات إدارته السابقة، ومهما هُمس وأشيع عن هستيريا البعض في فريق 14 آذار حيال الضربة الأميركية المفاجئة، يظل من الصعب إدراك حقيقة هذا الانقلاب وعمقه وبعده، إلا بمقارنته بالسلوك الأميركي في سياق مطابق في فترات سابقة. لتحقيق ذلك ليس أمام المراقب إلا العودة إلى آخر زيارة لأحد أسلاف كيري للعاصمة اللبنانية. وهو ما يقودك إلى زيارة هيلاري كلينتون لبيروت في 26 نيسان 2009. هكذا تبدأ بالظهور تلك اللجة السحيقة بين النظيرين، في التوقيت والشكل والمضمون.
بداية في التوقيت، جاءت كلينتون في يوم ذي رمزية خاصة جداً لفريق من اللبنانيين. وصلت في الذكرى الرابعة لانسحاب الجيش السوري من لبنان. اليوم يصل كيري في الذكرى الأولى لتحرير مقاتلي حزب الله لبلدة القصير السورية، ذاك الحدث الذي شكل منعطفاً في مسار الكثير من المعارك الدائرة في جوارنا. طبعاً قد لا تكون كلينتون قد قصدت 26 نيسان ولا اختار كيري 5 حزيران، غير أن مصادفات التاريخ والتواريخ لا تخلو غالباً من عبرة وعناية.
في التوقيت أيضاً جاءت كلينتون قبل خمسة أسابيع من الانتخابات النيابية التي كانت مقررة في 7 حزيران 2009. وتحدثت عنها مطولاً، ووشى كلامها عن ذلك الاستحقاق بميل واشنطن الواضح إلى فريق لبناني ضد آخر، وإلى تفضيلها فوز طرف لبناني محدد دون سواه، بينما يأتي كيري بعد عشرة أيام على الشغور الرئاسي في بيروت، ليعلن أن لا مرشح لهذا المنصب تدعمه بلاده، وأن لا فيتو لديها على أحد.
في الشكل المتلازم مع التوقيت والمضمون، قبل خمسة أعوام وخمسة أسابيع، حصرت كلينتون لقاءاتها الرسمية بقصر بعبدا. كأنها أرادت توجيه رسالة أميركية حول أحادية السلطة والنظام في لبنان. اليوم يأتي كيري متنقلاً بين أكثر من موقع ومقر رسمي وغير رسمي. كأنه أدرك هذا الطابع التعددي البنيوي للبلد الذي يزوره، وكأنه بات يسلم ويحرص على توازناته الدقيقة، كشرط مكوّن للاستقرار الذي تطلع إليه كما فعلت كلينتون من قبله. وفي الشكل أيضاً، لم تنتقل وزيرة الخارجية الأميركية قبل خمسة أعوام من قصر بعبدا إلا لتزور ضريح رئيس الحكومة المغفور له رفيق الحريري، بينما يبدو أن كيري لم يهتم كثيراً بتلك المحطة العاطفية، ويبدو أن تمام سلام لم يصر أو يذكر أو يطلب على الأرجح.
يبقى الأساس في فوارق المضمون بين الزيارتين. ففي سياق مرتبط مباشرة بفارق الشكل المشار إليه، سنة 2009 أفردت هيلاري كلينتون مساحة مهمة من كلامها البيروتي للحديث عن المحكمة الدولية. ففي مؤتمرها الصحافي قالت كلينتون: «أنا هنا أيضاً لأتعهد بالدعم الكامل للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وسأغادر بعبدا متوجهة الى ضريح رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري لأقدم تعازيّ، وهناك حاجة الى وضع حد نهائي لحقبة من عدم المعاقبة لاغتيالات سياسية في لبنان، وهذا أمر لا يمكن ولا يجب استخدامه كورقة مساومة». سنة 2014 غاب الموضوع كلياً عن كلام كيري، رغم انطلاق المحكمة، ورغم موعد استئناف جلساتها الوشيك… أو بسبب ذلك. وفي سياق الانحياز الأميركي نفسه، أسهبت كلينتون سنة 2009 في التعبير عن عواطفها وميولها. حتى إنها أعلنت في مؤتمرها الصحافي «أن المبادئ الأساسية لـ«ثورة الأرز» الهادفة الى تحقيق سيادة الشعب اللبناني وحريته هي قيمة جوهرية نحترمها وسنعمل على ترجمتها الى حقيقة دائمة». وعلى سجل ضريح الحريري كتبت بخطها: «إن الذين قتلوا رفيق الحريري لم يقتلوا حلمه في لبنان حراً سيداً مستقلاً ومزدهراً… ولن يتمكنوا من ذلك أبداً. إن حياته وتراثه سيستمران في إلهام الشعب في كل مكان. فليبارك الرب ذكراه وعائلته وبلده الحبيب». سنة 2014 بدا أن كيري غير منهمك ببقايا ثورة الأرز ولا بضحاياها، بل بخسائر ثورة دمشق والحد من ضحاياها. سنة 2009 تحدثت كلينتون عن رئيس الجمهورية اللبنانية، الذي «ينتهج خط الاعتدال مع الجميع». سنة 2014 تحدث كيري عن «رئيس قوي»، تماماً كما رسم «سيبة» أساسية أو حتى تأسيسية، بين رئيس الجمهورية ورئيسي المجلس النيابي والحكومة. سنة 2009، شددت كلينتون على أن «قرارات مجلس الأمن كانت واضحة لجهة أن القوى المسلحة اللبنانية هي القوات الشرعية الوحيدة التي يحق لها امتلاك السلاح في لبنان والمسؤولة عن جميع اللبنانيين»، مذكرة تحديداً بالقرار 1701، في إشارة منها إلى رفض واشنطن لسلاح حزب الله. سنة 2014 تناسى كيري حزب الله في لبنان، وذهب ليسبغ عليه شرعية دولية حيال دوره في سوريا، ومسؤولية عليه في إرساء الحل هناك. شرعية ومسؤولية، لا كجهة حزبية، بل في سياق توصيف «دولتي»، أي كدولة، إلى جانب دولة إقليمية كبرى هي إيران، وأخرى دولية كبيرة هي روسيا.
هكذا يكتمل مشهد الانقلاب بين كلينتون في عهد فيلتمان الثاني، أو سيسون، وكيري في عهد هايل. انقلاب مفهومة وقائعه وحيثياته من أفغانستان إلى دمشق وما بينهما. لكن من يقنع 14 آذار بأن لا لزوم للهستيريا في زمن كيري، كما لم يكن من لزوم للبطر السياسي واليوفوريا الانتصارية في زمن كلينتون. فمعادلة الحياة أو الموت في هذا البلد الفسيفسائي واضحة ثابتة: إما أن نحيا معاً، على قاعدة السيادة والتوازن والحرية، وأن لا منتصر باستقواء خارجي ولا مهزوم باستعداء داخلي… وإما أن نموت كلنا معاً، ونحن ننتظر كلمة سر لورقة اقتراع، ممن لم يقترع في حياته قط ولم يقرأ كلمة ولم يكتب حرفاً على ورقة.