تعدّدت الآراء والمواقف والتوقعات في شأن النتائج المفترضة للقاءات التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في باريس مع نظيريه، الفرنسي فرنسوا هولاند والأميركي بارك أوباما والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، إثر احتفالات «النورماندي».
الأزمة الأوكرانية إحتلّت حيزاً واسعاً في المحادثات، على رغم الحرص الغربي على عدم الظهور المشترك أمام الكاميرات مع الرئيس الروسي كتعبير عن الإستياء من تصرفات موسكو.
وقد تزامنت هذه اللقاءات مع تصريحات غربية شديدة اللهجة، تفيد أنّ السبيل لتنشيط العلاقات وفك العقوبات والحصار هو الإعتراف بالرئيس الأوكراني الجديد، ووقف دعم المنشقّين في شرق أوكرانيا.
هذا الظاهر في الكلام ومجرد اللقاء في حد ذاته أعطى زخماً لبوتين، ومنحه جانباً من المناورة، يقوم على قاعدة أنّ كل ما يجري في شرق أوكرانيا سيمرّ من دون عقوبات، مما فتح شهيته أكثر على المزيد من التصعيد، بل التفكير أكثر في التدخل العسكري المباشر هناك. فاستطاع استثمار لقاءاته بشكل ظهر، وكأنّه ربح الجولة الأولى مع الغرب محققاً إختراقاً دبلوماسياً، بل مُحدثاً شرخاً في مواقف الغرب في الموضوع الأوكراني.
ويعتقد مراقبون أنّ بوتين في محادثاته، أتقن لعبته جيداً مع خصومه الغربيين، فهو طالب بضمانات عدم إنتقال موجة التحركات الشعبية الى المدن الروسية، وفي الوقت نفسه إستند الى تأييد شعبي عارم بسبب إثارته العصبيات القومية والروح الوطنية بعد الترويج لفكرة، أنّ هناك مخاطر خارجية كبرى. ولهذا الغرض بالذات، أوحى للشعب الروسي أنّ إحتلالاً نازياً جديداً على الأبواب مصدره القوميون – النازيون الأوكرانيون «البانديري»، فنال قاعدة عريضة من التأييد، قلّما شهدتها روسيا منذ انهيار الإتحاد السوفياتي، مستنفراً كل طاقاته في تحشيد غير مسبوق لمواجهة الهجمة المزعومة الزاحفة من الشرق، بعدما شعر أنّ العقوبات الأوروبية غير جدية ولا يمكن للغرب أن يمضي بها.
وعلى رغم أنّ لهذه العقوبات بعض التأثير، لكنّه تأثير غير ذي أهمية، ما أتاح له التفكير والوقت للتخطيط جدياً للقيام بعملية عسكرية في شرق أوكرانيا، حيث يؤكّد المراقبون على أهمية الضغط أكثر لمنع هذه العملية العسكرية بطريقة أن يكون لهذه العقوبات أثران: أولهما إقتصادي والثاني نفسي عبر الضغط لمنع الإنزلاق الى أعمال عسكرية في المستقبل.
رئيس اللاقرار
على هذا الأساس، فإنّ دعوة بوتين الى فرنسا كانت خطوة غير مدروسة، وأفشلت الى حد كبير كل الجهد الذي بذله الغرب للتأثير على بوتين لتغيير سياسته في شأن أوكرانيا. فبَدَل أن يُظهر الغرب الرئيس بوروشينكو قوياً، حوّله الى رئيس ضعيف تتم المفاوضة بإسمه، والى رئيس عاجز غير قادر على ضبط التوازنات في بلاده، فهو رئيس اللاقرار.
الأنكى من كل ذلك، أنّ أحداً من الزعماء الذين التقوا بوتين، وتبادلوا معه الأنخاب على موائد العشاء، لم يثر مسألة ضم القرم عبر الإستفتاء، وكأنّ هذا الأمر أصبح خلف الظهر، على رغم أنّه كان بوابة تدهور العلاقات مع الغرب. ويؤكّد مراقبون أنّ المطلوب من الغرب أن يجعل بوتين قلقاً على إقتصاد بلاده من العقوبات بسبب ضم القرم، لكنّ الرئيس الروسي يعرف جيداً كيف يستغل التردّد الأميركي، الأمر الذي أنتج تبايناً واضحاً في المواقف داخل المعسكر الغربي، على اعتبار أنّ المصالح الأميركية لن تتضرر بالقدر نفسه الذي يصيب أوروبا.
هنا استغل بوتين جيداً التصدّع داخل «الحلف الأطلسي» بسبب غياب الرؤية الموحدة، بأنّ المزيد من التصعيد سيكون له تداعياته على الطرفين.
يشار الى أنّ العقوبات أدت الى هروب رساميل من السوق الروسية، حيث خرجت استثمارات بما يعادل نحو 63 مليار دولار قد تصل في حال الضغط الى 130 ملياراً في الفترات المقبلة، الأمر الذي سيضرب في عمق الإقتصاد الروسي على المدى البعيد. هنا يؤكد المتابعون أنّ على العقوبات أن تأخذ منحى شديداً لكسر كل الطموحات الروسية في شرق أوكرانيا، ومحاولتها إعادة تنصيب رئيس موالٍ لها.
وعلى رغم ذلك، فإنّ تصريحات بوتين التصعيدية المتطرفة بشأن العلاقة مع الغرب أعادت بعض الحياة إلى حلف «الأطلسي»، الذي كان قد فقد أي مبرر وجودي له بعد سقوط الإتحاد السوفياتي. ويعتقد البعض أنّ الرجل قدّم هدية مجانية للغرب، فأعاد الحياة لفكرة التواجد العسكري الغربي في أوروبا الشرقية والغربية، كما أنّ السلوك السياسي الأمبراطوري – القيصري لبوتين أنتج طبقة في الداخل الروسي معادية كلياً لسياسته، حيث بدأت تتأطّر نخباً لمواجهة نتائج هذه السياسة يلفها الخوف من غطرسة الرئيس، وفتحت الباب أمام معارضة صامتة، تتهيأ لمواجهة تداعيات انهيارات مصالحها في دول أوروبية.
إذن، فالرجل يواجه خطرين: داخلي صامت وخارجي جراء الحصار. من هنا يعتقد كثيرون أنّ «القيصر» غير قادر على التراجع، وإلّا فالباب مفتوح لحراك كبير في المقاطعات الروسية، وهو بدأ، وربما تظهر نتائجه في انتخابات الدوما، وهنا سيشعل الرجل مجدداً المشاعر القومية للحفاظ على كتلة روسيا الموحدة، أي حزبه كأكبر كتلة في البرلمان، وستفيض الشوارع الروسية بالمعارك القومية.