عاد البطريرك الماروني بشاره بطرس الراعي الى لبنان، عبر مطار رفيق الحريري في بيروت، على متن «طائرة خاصة» آتياً من العاصمة الأردنية، عمان، وتوجه فوراً الى الصرح البطريركي في بكركي، من دون أي «بروتوكول» في قاعة الشرف، ومن دون أية تصريحات إعلامية، وذلك خلافاً لما جرت العادة… وذلك، بعدما كان زار «الأراضي المقدسة» الواقعة تحت الإحتلال الإسرائيلي، في مهمتين اثنتين: المشاركة في إستقبال البابا فرنسيس، وتفقد «الرعية» هناك… وهي زيارة أثارت إنقساماً لدى الرأي العام اللبناني، بين مؤيد، ومتحفظ ومعارض..
في المبدأ، سوّق الكاردينال الراعي لزيارته على أنها «رعوية» خالصة، فهو «بطريرك انطاكية وسائر المشرق» ورعايته تمتد من لبنان الى سوريا، الى كيليكيا والإسكندرون الى الأردن وفلسطين المحتلة…
بعض الذين تحفظوا على الزيارة أو عارضوها أبدوا خشية من أن تستغلها «إسرائيل».. لكن الزيارة حصلت، وامضى الراعي اسبوعاً في الأراضي المحتلة، ولم يعر أي إهتمام للأصوات التي تحفظت أو عارضت، وقال بصوت مرتفع، من صالون الشرف في مطار بيروت: «أنا البطريرك ولا أحد يملي عليّ ما يجب أن أفعله، وما يجب أن لا أفعله…».
طوال فترة وجوده، خارج لبنان، كان الراعي تحت الأنظار، في كل صغيرة وفي كل كبيرة… وطوال الأيام الخمسة الأولى للزيارة «الرعوية» كان حضوره، كما كلامه «لطيفاً» وفي اليومين الأخيرين، تبدلت اللهجة، وخصوصاً بعد لقائه من سمي بـ «الجالية اللبنانية في إسرائيل»… فارتفع الخطاب وازداد حدّة وانفعالاً، من دون أي تبرير…
كان من الطبيعي أن يثير لقاء البطريرك الماروني، مع «الجالية»، مسألة «عودة هؤلاء الى بلدهم…» بعد «نزوح قسري» من الشريط الحدودي – الذي كان تحت الإحتلال الإسرائيلي وبإدارة «جيش لبنان الجنوبي» بقيادة (الجنرال) أنطوان لحد – إثر إنتصار المقاومة اللبنانية وإنسحاب الإسرائيليين، ومن تعامل معهم، أو أكره على التعامل، من غالبية جنوب لبنان في أيار من العام 2000.. فهذه المسألة، مسألة عودة، من يريد العودة الى لبنان، مطروحة منذ زمن غير قصير، وهي لقيت تجاوباً من غالبية الأفرقاء اللبنانيين، حيث أن أحداً لم يمنع هؤلاء (أقله من يريد العودة) من العودة الى لبنان، «لكن ضمن القواعد والشروط القانونية، حيث لابد من إجراء تحقيقات ومحاكمات، خصوصاً أولئك الذين كانت لهم أدوار عملانية مع الإحتلال و «جيش لحد» الذي إتفق على أنه خرج عن إطار المهمة التي كلف بها وبات جزءاً لا يتجزأ من الآلة العسكرية الإسرائيلية ومهماتها، رغم أن هؤلاء العسكريين، بقوا – حتى العام 2005 – يتقاضون رواتبهم كاملة من وزارة الدفاع في اليرزة عن طريق قبرص» .
اللافت، ان البطريركية المارونية، وعلى مدى السنوات الأربعة عشر الماضية، لم تكن غائبة لحظة واحدة عن هؤلاء، الذين كان بعضهم يوم تركوا الجنوب لم يتجاوز سن الطفولة… ما يظهر أن الذين تركوا الجنوب في العام 2000 ينقسمون الى أكثر من فئة:
– فئة متورطة مع الإحتلال الى أبعد الحدود.
– وفئة اضطرت لترك الجنوب بعامل القرابة مع هؤلاء وخشية الإنتقام…
– وفئة كانت في سن الطفولة، أو ولدت في الأرض المحتلة.
ولتصحيح الصورة، فإن الفئة الأولى، ليسوا «مبعدين» من لبنان الى «إسرائيل»، بل فارين من وجه العدالة، التي وحدها صاحبة الحق في التجريم أو التبرئة…
ومع ذلك، فلم يكن لبكركي، على مدى السنوات الماضية، أي دور فعّال في حل هذه المسألة، بل على العكس من ذلك، فقد تصرفت على أساس من »أن إقامة هؤلاء في الأراضي المحتلة نهائية، لاسيما وإن البعض – خصوصاً الضباط والعسكريين من جيش لحد- رفض فكرة العودة من أساسها، على ما يؤكد المطرانان بولس صياح وموسى الحاج اللذين تناوبا على رعاية هؤلاء «المبعدين»…
في إحدى رسائله، الى بكركي يلفت المطران بولس صياح، الى أن «من إرتكب جرائم من اللبنانيين في إسرائيل، لا يبحث عن العودة الى لبنان إصلاً، ونحن لا نطالب بعودته… وإذا كان هناك آخرون مغلوب على أمرهم وفروا الى إسرائيل مرغمين، ولم يقرروا العيش فيها بكامل إرادتهم… فنحن نطالب بانصافهم…
ليس من شك في أن لا أحد يرفض «قراءة التاريخ والوقائع…» وليس من أحد يرفض النطر الى هذه القضية نظرة موضوعية… كما أن لا أحد يرى وجوب وضع هؤلاء في «سلة واحدة…» فخطيئة الكبار حطت على الصغار وعلى من لم يكن ولد بعد، ولابد من حل؟!
من أسف ان ملف «الفارين الى إسرائيل»، كان في صلب «وثيقة التفاهم» بين «حزب الله» و «التيار الوطني الحر» بقيادة الجنرال ميشال عون… لكن أحداً لا يملك جواباً عن سؤال لماذا لم يتحرك هذا الملف، إلا مع زيارة البطريرك الراعي، الذي في عرف كثيرين أخطأ في أربع.
وإن أصاب في «جوهر المسألة إنسانيا»:
– في «التوقيت».
– في اللهجة التي بلغت حداً غير مسبوق في الإنفعال.
– وفي المكان… وهو يعرف أن هذه المسألة ليست على هذه الدرجة من البساطة، وليست مسألة سياسية مجردة عن كل ما تعرض له لبنان على مدى العقود الماضي…
– وفي الجهة التي وجه اليها الخطاب من وراء الحدود، وهو يعرف ان لبنان يمر بأزمة بالغة التعقيد مفتوحة على الكثير من التداعيات ولا يحتمل أي إستغلال سياسي أو غير سياسي لأزمة ليست وليدة البارحة وليست هذه الدرجة من البساطة؟!