أثبتت أحداث العراق، مرّة أخرى، أن سياسات القهر والضغط ، وأساليب الإقصاء والتهميش ضد الشركاء في الوطن والمصير، لا بدّ أن يؤدي إلى الانفجار، مهما طال أمد أزمنة الفرد الواحد، واللون الواحد، والحزب الأوحد!
ما يجري في بلاد الرافدين أكبر من قدرة «داعش» وحدها على القيام به، لأن التمرّد تحوّل إلى انتفاضة شعبية عارمة، في مناطق الأنبار، ذات الأكثرية السنية، بعدما فشلت جميع المحاولات مع نوري المالكي، لإصلاح إدارته السياسية، والإقلاع عن أسلوب التفرّد بالقرار، وإفساح المجال أمام شراكة حقيقية في السلطة، مع مكونات المجتمع العراقي، وخاصة أهل السنّة في الأنبار، الذين ساهمت «صحواتهم» في التصدّي لتنظيم القاعدة ومتفرعاته في العراق، إبان الاحتلال الأميركي، وكان لهم دور بارز في تخفيف التفجيرات في بغداد، وبالتالي تأمين الأجواء الأمنية المناسبة لإجراء الانتخابات النيابية الأولى والثانية، ووصول المالكي نفسه إلى السلطة.
وعوض العمل بسرعة على معالجة أسباب الانفجار الحالي، الذي يُهدّد وحدة وتماسك الكيان العراقي، دولة وشعباً، عمد المالكي، وبسياسة لا تخلو من المغالاة والمكابرة إلى الهروب للأمام، محاولاً إلقاء اللوم على الخارج، لإخفاء خلفية إخفاقه وفشله الذريع في إدارة العملية السياسية، التي كان مقدراً لها، أن تضع الأسس المتينة للدولة العراقية الحديثة، وتوفير الحياة اللائقة للعراقيين الذين يتمتعون بمواطنية ثاني أغنى دولة بترولية في الشرق الاوسط !
* * *
سارع المالكي إلى تحميل شقيقته الكبرى، المملكة العربية السعودية مسؤولية تساقط المدن والمناطق العراقية أمام انتفاضة مواطنيه، مستغلاً تلك الممارسات البشعة التي أقدمت عليها عناصر من «داعش»، في إعدام العشرات من الجنود العراقيين، الذين تخلت عنهم قياداتهم المتوارية من ساحات المعارك.
المطالبة بإزاحة المالكي عن رئاسة الحكومة العراقية العتيدة، لا يستهدفه شخصياً وحسب، بقدر ما يؤدي إلى استئصال عقلية التفرّد بالحكم، والهيمنة على السلطة، وإعادة إنتاج تجارب ديكتاتورية سابقة تحت مسميات ديمقراطية زائفة، أفرزت بيئات تعج بالفساد المالي، والتمايز الطائفي والمذهبي، وأدت إلى حصر القرار بيد المالكي، رئيس الحكومة ووزير الدفاع ووزير الأمن، ومجموعته الحزبية التي هيمنت على وزارات النفط والمالية والاقتصاد، وتقاسم مغانمها وبليوناتها، في أسوأ عملية نهب لثروات البلد.
لم تقتصر المعارضة على أهل الأنبار، بل امتدت إلى كردستان في الشمال، وشملت أحزاباً وشخصيات شيعية مرموقة في بغداد والبصرة والنجف في الجنوب.. ولكن لا نصائح المخلصين أفادت، ولا تحذيرات الغاضبين ردعت، ولا تهديدات المهمّشين نفعت في ردع المالكي وشلته عن الممارسات الانتحارية للوطن، والعودة إلى طريق الحوار والوفاق مع الشركاء الآخرين في البلد!
* * *
من السخافة بمكان إصرار المالكي على اتهام السعودية بتمويل «داعش»، وهو الأدرى بأنها فرع من تنظيم «القاعدة» الذي تخوض الرياض معركة مفتوحة مع قيادته وعناصره، منذ أكثر من عقدين من الزمن، وتكبّدت الأثمان الباهظة في تصديها للإرهاب، وصلت إلى حد تهديد حياة وزير الداخلية الأمير محمّد بن نايف شخصياً، لو قدّر لتلك العملية الانتحارية أن تنجح في استهدافه بمنزله.
والمالكي يُدرك أكثر من غيره، أن الرياض لن تسمح بوجود جماعات متطرفة، وعلى علاقة بالقاعدة، على حدودها مع العراق، أو مع أي بلد مجاور آخر، فإلى أي منطق جيوسياسي، يستند المالكي وجماعته، في توجيه مثل هذا الاتهام الساذج للسعودية؟!
ورئيس الحكومة العراقية المنتهية صلاحياتها، كان في مقدّمة المرحّبين بالقرار الملكي، الذي أصدره الملك عبد الله بن عبد العزيز قبل أشهر، ونص بشكل واضح وحازم على منع توجه الشباب السعودي للمشاركة في أعمال عنفية وإرهابية في الخارج، وملاحقة أي جهة أو أي شخص، وكل من تثبت علاقته، بتمويل وتشجيع الشباب على الالتحاق بتلك التنظيمات الإرهابية، سواء أكان المشجعون من رجال الدين، أو متمولون ورجال أعمال، أو مؤسسات اجتماعية أو رعوية خيرية..!
* * *
أزمة العراق لا تُحل باتهام الأشقاء، ولا بمحاولة تصديرها إلى دول الجوار. الحل موجود في الداخل العراقي، ويبدأ بإقصاء المسؤول عن إقصاء وتهميش شركائه في الوطن، وإفشال العملية السياسية قبل أن تُبصر التجربة الديمقراطية النور على ضفاف الرافدين.