لا يبدو الفراغ الرئاسي مزعجاً لأحد، لا للقوى الداخلية ولا الخارجية، على رغم التباكي الظاهر في بعض الأوساط. لذلك، تتزايد الشكوك: هل هناك قوى دوليّة كبرى سمحَت بتمرير الفراغ، تسهيلاً لبلوغ خيارات آن أوانُها؟
يتردَّد في بعض الأوساط الديبلوماسية الرفيعة، في بيروت، أن لا إنتخابات رئاسية في الصيف، وأنّ على اللبنانيين انتظار رئيسهم في تشرين الثاني.
وهذا الكلام يثير التساؤلات. فالبعض يقول إنّ القوى الدولية الكبرى، ولا سيّما الولايات المتحدة التي صنَعت «المعجزة» في حكومة الرئيس تمّام سلام، فجمَعت المتناقضات والمتناقضين تحت سقف واحد، كانت قادرة على فرض الانتخابات الرئاسية في موعدها وتسميةِ رئيس توافقي. لكنّها لم تفعل.
إلّا أنّ البعض يرى أنّ المراهنة على دور حاسم لهذه القوى الدولية في فرض الخيارات مبالَغٌ فيها. فواشنطن وحليفاتها تمتلك 60 في المئة أو 70 في المئة من القرار، إلّا أنّ الآخرين قادرون على التحكُّم أيضاً أو التعطيل. ولذلك، وقعَ الفراغ خلافاً لإرادة الأميركيين. ومن بعدِه، ستبدأ المساومات حول التسوية.
وفي الحالين، أي سواءٌ أكانت واشنطن والقوى الدولية قد «قبَّت الباط» عن الفراغ، أم هو فُرِض عليها، فالثابت أنّ مفاوضاتٍ ستنطلق خلال الصيف، لإنتاج تسوية حول الاستحقاقات الدستورية التي ستزداد تأزماً، على مستوى رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة، وقد تستغرق أشهراً.
وفي رأي البعض أنّ إيران وسوريا بادرتا إلى فرض الفراغ الرئاسي، للوصول إلى خلطِ أوراق جذريّ. لكنّ قوى دولية، وفي مقدّمها واشنطن، ربّما اقتنعَت بالفراغ لأنّها تعتقد أيضاً بأنّ لحظة صناعة التسويات الكبرى، في لبنان والمنطقة، قد آن أوانها، بناءً على المتغيّرات الجذرية في الأنظمة والخرائط.
ففي سوريا، مرَّر الأميركيون مواربةً تجديد الولاية للرئيس بشّار الأسد. وفي المقابل، وعدوا (للمرّة المئة) بمدِّ المعارضة بسلاحٍ وازن. وهذا يعبِّر عن الاتّجاه الذي تنحو إليه سوريا: الجميع أقوياء، والجميع يتقاتلون، إلى أن تتكرَّس الوقائع الجديدة على الأرض!
ولذلك، فالفراغ الرئاسي في لبنان، والأزمات الآتية على مستوى قانون الانتخاب، والانتخابات النيابية والحكومة، ستقود حتماً إلى مفاوضات لإنتاج تسوية شاملة. لكنّ التسوية متعذّرة، هذه المرّة، إلّا في ظلّ شكل من أشكال طاولة الحوار. وهذه الطاولة هي التي ستتحوّل مؤتمراً تأسيسيّاً يُخطّط له «حزب الله». وقد تترافق الأزمة السياسية – الدستورية مع تصعيد إقتصاديّ – إجتماعي، وربّما أمني، ما يؤدّي إلى الفوضى الشاملة وضياع المسؤوليّات والمرجعيات، فيصبح المؤتمر أكثر إلحاحاً.
وفيما أثار السيّد حسن نصر الله مجدّداً ملف المثالثة – ما يذكِّر بـ»التأسيسي» – فإنّ «الحزب» لن يكون مضطرّاً إلى المطالبة بهذا المؤتمر، لأنّ خصومَه سيسبقونه إلى ذلك، إذ لا بديل آخر لهم. وسيأتي «الحزب» إلى المؤتمر بناءً على دعوة الآخرين، ومن باب حُسن النيّة.
وفي هذا الحوار، ستُعالَج الأزمة الدستورية. ولكن، في النهاية، ولو طالَ زمن المناقشات، فستنتهي بإعادة النظر في العديد من بنود الطائف. وسينشأ مفهوم جديد للصيغة اللبنانية، يأخذ في الاعتبار تطوّرات المنطقة. ومن خلاله، قد يتمّ إنهاء ملفّ سلاح «حزب الله»، عن طريق اعتراف الجميع باستمراره في مناطق وجوده، ولكن كجزء من القوى الشرعية اللبنانية، وتحت إمرتها، وفق صيغةٍ ترضي «الحزب» ويقتنع بها الآخرون. فالمؤتمر التأسيسي ربّما يعترف بنوعٍ من الخصوصيات المناطقية للجميع.
ولذلك، يُطرَح السؤال: هل اقتربَت فعلاً ساعة المؤتمر التأسيسي، وهل تقاطعَت مصالح القوى الخارجية والداخلية على عقدِ المؤتمر، كلٌّ بناءً على مفهومه الخاص ولأهدافه وطموحاته؟ وهل إنّ الولايات المتحدة، بدأت تتعاطى مع الواقع اللبناني على هذا الأساس… بدءاً من السماح بتمرير الفراغ الرئاسي بلا ضجيج؟ وهل إنّ الإصرار على التوازن خلال تأليف الحكومة كان مقصوداً لإدارة مرحلة الفراغ… وصولاً إلى المؤتمر؟
الصيف الآتي لن يكون عاديّاً في لبنان، بكلّ المقاييس. ولبنان الآتي، بعده، لن يكون «لبنان العادي». لكنّ المسألة مسألة وقت فقط.