يَنبغي التعمُّق في ما صدر أخيراً عن بعض الوجوه السنّية، وخصوصاً في طرابلس، وخلاصته: الواقع السنّي يتغيَّر. لم نعُد ضعفاء. أنظروا إلى ما يجري في العراق وسوريا وسواهما، واتعِظوا. وإذا إستمرّ الظلم اللاحق بنا في لبنان أيضاً، فانتظِروا!
في الأنظمة القائمة على كيانات الشرق الأوسط – ومعظمها إستبدادي – هناك فئات ظالمة تُمسِك بالسلطة وتعطِّل الديموقراطية أو تزوِّرها. وهناك فئات مظلومة وممنوعة من بلوغ السلطة، وهي التي تطالب عادة بالديموقراطية والعدالة في المواطَنة.
ولأنّ الصراع مذهبي، فمعادلة الظالم والمظلوم ترسو على الآتي:
– هناك كيانات يُهيمن عليها الشيعة، كالعراق وسوريا. وفيها ينتفض السنّة على الظلم ويرتاح الشيعة إلى السيطرة.
– هناك كيانات يُهيمن عليها السنّة، وهناك ينتفض الشيعة على الظلم ويرتاح السنّة إلى السيطرة.
– هناك النموذج اللبناني الذي ينزلق، منذ أعوام، من معادلة التوازن، لتصبح فيه السلطة أقرب إلى الشيعة. وهذا ما يكاد يضع لبنان ضمن الفئة السورية – العراقية.
وعلى رغم أنّ السنّة غالبيةٌ في سوريا، فالعلويون مُمسكون بالسلطة. كما أنّ شيعة الخليج لهم وزن ملموس، لكنّهم ممنوعون من أيّ نفوذ. أمّا في لبنان، فتمكَّن «حزب الله» بسلاحه، وبالتحالف معنصف المسيحيين، من أن يأخذ السلطة في جريرته، على حساب السنَّة والنصف الآخر من المسيحيين. وباتت العملية السياسية في لبنان بين خيارين: إمّا أن تتعطّل وإمّا أن تسير كما يرتأي «الحزب». ونماذج التعطيل النيابية والحكومية والرئاسية واضحة منذ 2005، مروراً بـ7 أيار 2008 وسائر المحطات.
يصرخ السنَّة في لبنان من الظلم، ويصرّون على أنّ صراخهم مشروع. فـ»حزب الله» يتحرَّك في كامل جهوزيته اللوجستية ليتورَّط في القتال في سوريا، والسلطة لا تُحرّك ساكناً. لكنها تلاحق الذين يذهبون من لبنان للقتال في الإتجاه السوري المعاكس، وهم غالباً أفراد غير منظمين.
ويرتاح «الحزب» في العلاقة بينه ـ كتنظيم مسلّح ـ وبين السلطة. فالبيانات الوزارية باركت «ثلاثية» الجيش والشعب والمقاومة. ويقول السنّة إنّ السلطة ليست عادلة معهم لا في طرابلس وعكار، ولا في عرسال، ولا في عبرا وقضية الشيخ أحمد الأسير ولا في بيروت، ولا في ملف السجناء الإسلاميين.
ولذلك، يَحتقن السنَّة ويردِّدون ما كان الشيعة يرفعونه سابقاً: «الساكت عن الحقّ شيطان أخرس». لكنّ جدلية الحقّ والظلم تَروي نفسها بنفسها في شرقٍ أوسط لا يكتفي أبناؤه بالمعادلة الصراعية داخل كياناتهم، بل يخوضون معارك الغلبة على المدى الإقليمي بأسره. فالظالم هنا مظلوم هناك، والعكس صحيح.
ويهمس كلٌّ من الطرفين قائلاً: «البادئ أظلم». ولا إجابة عن السؤال: مَن بدأ بالظلم، ومن يقوم بردِّ الفعل؟ وإستطراداً: هل هناك مَن يرتكب الظلم «إحتياطياً» لأنه «إذا لم يكن ذئباً ستأكله الذئاب»؟
فالأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله يقول: لو لم نبادر إلى قتال التكفيريين في عقر دارهم في سوريا، لوصلوا إلى عقر دارنا في لبنان. وبعض الشيعة مقتنع بصوابية هذه النظرية. وربما لدى القوى السنّية المتطرّفة، الناشئة والزائدة الدينامية في «الهلال الشيعي الخصيب»، ذريعة التحرك إنطلاقاً من منطق معاكس.
على المستوى الكياني، السنّة مظلومون اليوم في العراق وسوريا ولبنان… لكنّ الشيعة مظلومون في أماكن أخرى. وفي حضور الغرائز وإلى أن يُستعاد مكانٌ للعقل، ستدوم جدلية الظلم إلى ما لا نهاية… ما لم ينتصر طرفٌ على آخر. وستجد القوى المستفيدة من الصراع أنّ الظلم مادة أولية رخيصة الثمن ومتوافرة. وهي فعّالة في تفجير المجتمعات، وكفيلة بإغراقها في «نيو جاهلية» أشدَّ شراسةً من الجاهلية عينها.