تتداول الكواليس والدوائر السياسية اللبنانية، فرضية فحواها ان الطبقة السياسية كلها عندما سلمت أمر الرئاسة الاولى، طوعاً أو قسراً، للفراغ، انما كانت تعبر عن تبرّمها أو عدم استسلامها لقواعد اللعبة السياسية السابقة التي سادت المشهد السياسي منذ عام 2005 وحتى الامس القريب، وانها تالياً إختارت ان تذهب الى الشغور وهي تضمر رهاناً دفيناً على حدث أو على لحظة سياسية متحولة، تسمح لفريقي النزاع بالتحلل من موجبات قواعد اللعبة السابقة بشكل أو بآخر.
حاملو هذه النظرية، والذين يحرصون على تردادها يستندون في دفاعهم عنها الى جملة وقائع ومعطيات عملية برزت متتالية خلال الحقبة الماضية وأبرزها:
– اختيار فريق 14 آذار خوض تجربة أن يكون للمرة الاولى خارج الحكم وذلك عندما رفض عرض المشاركة في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. وفي المقابل قبول فريق 8 آذار وحليفه “التيار الوطني الحر” خوض غمار تجربة حكومة اللون الواحد، للمرة الاولى أيضاً.
– “مكابرة” فريق 14 آذار الشهيرة برفض حكومة مشاركة مع الفريق الآخر ولمدة 11 شهراً في محاولة جلية منه لترسيخ أسس تجربة حكومية جديدة تخلو من تمثيل “حزب الله” على وجه التحديد ويكون على رأسها رئيس من لدن فريق 14 آذار، وهي محاولة وان اخفقت لكن صداها سيتردد الى فترة طويلة باعتبارها خروجاً عن القواعد المألوفة.
– للمرة الاولى يرمي “حزب الله” في سوق التداول السياسي فكرة سياسية دراماتيكية داخلية عنوانها العريض: تعالوا الى مؤتمر تأسيسي جديد بهدف ابرام عقد سياسي جديد يتخطى اتفاق الطائف الذي وصل في محطات عدة الى الحائط المسدود. وان كان الحزب عاد وطوى لاحقاً هذا الطرح، خصوصاً في اعقاب ردة الفعل الواسعة التي اثارها خصومه ضده، انطلاقاً من اعتبار انه مدخل الى “المثالثة”: الا ان هذا الطرح في حد ذاته، لا سيما وانه ورد على لسان الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله، عزز أمرين اثنين:
الاول: ان الحزب المعروف بتأقلمه وتكيفه مع الامر الواقع نظراً الى حرصه الشديد على امر واحد (المقاومة وسلاحها)، قد صار فعلاً في مناخ ان الازمات ستتناسل وتتوالد ما دام الوضع السياسي الحالي والتركيبة المعروفة قائمة.
الثاني: ان الحزب وضع نفسه وجمهوره وحلفاءه وخصومه على حد سواء في أجواء ان ما يقبل به الآن ويلعب تحت سقفه سيأتي حين من الدهر ويصير مرفوضاً.
– للمرة الاولى يقول فريق 8 آذار تلميحاً وتصريحاً انه يريد رئيساً للجمهورية من صنعه ويقدم للفريق الآخر عرضاً ينطوي على تسوية سياسية جديدة بدءاً من سدة الرئاسة الاولى وانتهاء بالتفاهم على مرحلة سياسية كاملة متكاملة، وإلاّ ما من شيء يحول دون اقامة مديدة للفراغ الرئاسي. ولا شك في ان هذا السلوك السياسي لهذا الفريق يجسد بشكل أو بآخر رفضه لتكرار تجربة رئاسية أخرى تكون على غرار تجربة الرئيس ميشال سليمان، التي انطوى عهدها قبل أيام قليلة على حصاد مر بالنسبة الى هذا الفريق.
فضلاً عن ذلك، فإن الفريق إياه يقيم على قناعتين ثابتتين:
الاولى: ان موازين القوى داخل مجلس النواب وخارجه لا تتيح للفريق الآخر تسمية رئيس من لدنه، ولا تجبره هو على القبول بتسوية رئاسية يكون فيها الطرف الاضعف.
الثانية: إن رياح الظروف والمعطيات الداخلية والاقليمية عموماً تسير وفق حسابات هذا الفريق، وبالتالي فمن الضرر له أن يكرر تجربة الانتخابات الرئاسية في عام 2008 ويقبل بتلك القسمة التي مهدت للاتيان بالرئيس سليمان.
بناء على كل تلك المعطيات والوقائع لم يكن غريباً أن تثار بعد أيام قليلة من خلو سدة الرئاسة الاولى، مسألة الصلاحيات وانفتاح ابواب السجال والاجتهاد حولها مما أوحى للكثيرين بأن الامور ذاهبة باتجاه شلل جديد في السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولم يعد خافياً ان انفتاح هذا السجال واحتمال تصعيده لاحقاً من شأنهما أن يبدّدا حالة الاطمئنان والاستقرار التي جهد كثيرون قبل حدوث الفراغ للقول انها ستكون عنوان مرحلة الفراغ انطلاقاً من امرين اساسيين هما:
– ان ثمة حكومة وحدة وطنية تشارك فيها كل القوى والتيارات السياسية وهي التي ستسير الامور بعد انتقال صلاحيات الرئاسة الاولى اليها.
– ان لا خوف على الوضع الامني في البلاد، خصوصاً ان الاسباب التي وضعت البلاد خلال الفترة الماضية في عين العاصفة قد زالت تلقائياً.
قبيل فترة وجيزة، وعندما صار يقيناً ان المسار السياسي لكلا الفريقين سيوصل حتماً الى الفراغ الرئاسي، طرح سؤالان محوريان، الاول حول كيفية ادارة مرحلة الفراغ الآتية ساعتها ولا ريب، والثاني حول صورة الوضع السياسي في مرحلة ما بعد الفراغ، وهل ستظل كما كانت قبله؟
ولا ريب ان الذين طرحوا هذين السؤالين لم يطرحوهما من فراغ بل كانوا مستندين الى جملة مخاوف وهواجس لها جذورها القديمة، ولها ايضاً وايضاً مبرراتها.