يبدو أن رئيس مجلس النواب نبيه بري لم يملّ بعد دعواته النواب لأكثر من عشر مرات متتالية للاجتماع لانتخاب رئيس الجمهورية واستكمال درس سلسلة الرواتب والأجور. وفي المقابل يبدو أن نواب التعطيل وكتلهم لم تمل بعد من الاستجمام على شواطئ المتوسط وفنادق الجبال، غير عابئين بممارسة مسؤولياتهم التي أوكلها لهم الشعب.
إن هذا الواقع، الذي يصادر الاستحقاق الانتخابي الأهم ومعه مستقبل الأجيال ومصالح الناس، لا يمكن تبريره بمتطلبات لعبة سياسية. فعندما يتسلى المسؤولون بمثل هذه اللعبة من دون إدراك آثارها وانعكاساتها السلبية، يُدانون أيضاً بسلب دُور الحضانة واحدة من تساليها.
لذلك، كان المشترع قد احتاط لإمكان تغيب النواب وتعطيل نصاب الجلسات. ففي أول نظام داخلي متكامل للمجلس المنشور سنة 1930 قضت المادتان 105 و106 منه بـ«حسم ما يصيب اليوم من التعويض الشهري الذي يتقاضاه النائب إذا ما تغيّب دون عذر. أما إذا تكرّر تخلف العضو خمس مرات متتالية فيحسم نصف التعويض الشهري. وإذا انقضى شهر ولم يحضر فيه أي جلسة استلزم عمله حسم التعويض عن شهر كامل». وقد أخذت هذه النصوص طريقها للتطبيق. ففي سنة 1947 مثلاً حسمت رئاسة المجلس تعويض يوم على عدد من النواب المتغيبين.
وما حدث من تطور في الحياة الاجتماعية والاقتصادية واتساع المشاركة في الإدارة اللبنانية أدى إلى اعتبار «الجزاء» الذي يناله النائب المتغيب غير رادع، ولو جزئياً، خصوصاً أن النواب كانوا قد أخذوا مواقعهم النافذة في كل المجالات. ولهذا تعدّلت «غرامة التغيب» من الجزاء المادي الصرف بإضافة «الجزاء المعنوي» إليها. ففي أول نظام داخلي صدر بعد استقلال الدولة سنة 1953 جاء في المادة 108 منه «إذا تكرر غياب النائب دون عذر عشر جلسات متتالية من جلسات المجلس أو جلسات اللجان، ينشر أمر غيابه في الجريدة الرسمية ويطبع به إعلان على نفقة النائب يوزع في دائرته الانتخابية ويقطع راتبه للمدة التي تغيب فيها». واستمر هذا النص نافذ الإجراء حتى سنة 1982 عندما تعدلت بعض مواده ومنها المادة 108 التي أخذت مكانها المادة 70 في النظام المعدل وجاء فيها «أن تغيب النائب عن أكثر من جلستين في الدورة الواحدة بدون عذر مشروع يحسم حكماً من تعويضه الشهري الأساسي والصافي 5% بالمائة عن كل جلسة يتغيب عنها»، واستمر هذا النص حتى تعديلات سنة 1991 عندما «ألغي الغرم على التغيب» وأصبحت الأبواب مفتوحة لإعلان «الإضراب النيابي» والمقاطعة المعطلة للمؤسسات ومصالح الناس كما هو اليوم تماماً. وهذا ما يطرح تساؤلاً حول قانونية فرض غرم على النائب المتغيب؟
في المبدأ، النائب ممثل للشعب الذي يستمد منه حصانة لا تتوقف مفاعيلها إلا من الشعب عند إجراء الانتخابات، أو بإجازة المساءلة أمام القضاء إذا توافرت شروط لمن يمثل الشعب، أي مجلس النواب، تسمح برفعها. وبهذا يمكن تبرير تحرير النائب المتغيب من غرم التغيب.
ومقابل هذا الرأي، يمكن القول إن الغرامة على النائب المتغيب هي تدبير إداري سلوكي داخل مؤسسة مجلس النواب، ويتم بإجازة مَن يمثل الشعب أصلاً باعتبار ان هذه الغرامة لا تفرض بموجب قوانين امام المحاكم على اختلاف أشكالها، إنما بموجب أحكام نظام داخلي يكون المجلس هو مَن وضعه ليلتزم بنصوصه. كما أن هذه الغرامة لا هدف لها إلا الحرص على استمرارية العمل النيابي ومنع تعطيله، وهذه الغاية تبرر اعتماد وسيلة لردع المتغيبين عن الجلسات، ليس مادياً فقط وإنما معنوياً باقتباس ما كان ينصّ عليه نظام 1953. فالأجر بدل عمل.. فكيف يكون هناك مَن يقبضون ولا يعملون؟