اول قرار للمندوب السامي الاميركي جون بريمر الذي انتدبته واشنطن حاكما بامر اسرائيل على العراق بعد «تحريرها» من نظام صدام حسين، كان الغاء الجيش العراقي وتفكيك الويته وفرقه وقطعاته، تحت شعار اعادة «تأهيله» وتنظيمه وفق الاصول الديموقراطية، واحترام شرعة حقوق الانسان . ولم يكن مستغربا ان الدولتين الاكثر ترحيبا بهذا القرار، كانتا اسرائيل وايران، فالاولى ارتاحت من جيش كان يعتبر من اكثر الجيوش العربية تدريبا واندفاعا وقدرة على القتال والاحتمال، والثانية ارتاحت من جيش على حدودها، ليس قادراً على ازعاجها واستنزافها فحسب، بل ايضا على الاندفاع في عمقها بمساحات كبيرة كما حصل في حرب السبعينات، بالاضافة الى تحرير شيعة العراق من عروبتهم، ووضع اليد عليهم وعلى العراق.
تفكيك الجيش العراقي، ليس موضوعنا الاساس اليوم – بل القصد من الاشارة اليه للاستناد الى وقائع ثابتة وملموسة، ان لا دولة ولا نظام، ولا استقرار، ولا نهوض وتنمية من دون جيش قوي قادر على حماية الوطن والشعب والمؤسسات وثروات الوطن المادية والمعنوية والتاريخية. والعراق دليل ملموس على ذلك، وسبقه دليل اخر عانى منه لبنان واللبنانيون طويلا، عندما انهار الجيش وانقسم وانقسمت معه المؤسسات، ودفع لبنان مئات الوف الشهداء والجرحى والمعوقين وتدمير البنية التحتية، وهجرة عشرات الوف العائلات، طلبا للامان والرزق، ومعاناتنا اليوم في الفراغ والتعطيل وضعف الدولة «وتفرعن» البعض، وتراجع الاقتصاد ونمو الهجرة وبيع الارض، نتيجة انهيار الجيش اللبناني وفقد مناعة الدولة وهيبتها وقدرتها على السيطرة، والاحداث الدامية التي تدور حولنا في فلسطين وسوريا والعراق، توقظ عند اللبنانيين شياطين الخوف والقلق من استعادة الماضي، ولو بصورة مختلفة واشخاص مختلفين والمثل اللبناني الدراج يقول «الملدوغ من الحية يخاف من جر الحبل» فكيف اذا كانت الحيات تطل برؤوسها في اكثر من منطقة تنشر فحيها وسمومها الطائفية والمذهبية باشكال وبدع مختلفة، تذكر بتلك التي سبقت انهيار الجيش في السبعينات تحت يافطة ان الجيش هو جيش المسيحيين والمقاومة الفلسطينية المحتضنة من المسلمين، هي جيش المسلمين.
* * * * *
هل تذكرون الشعارات «الوطنية» التي رفعها الملازم احمد الخطيب لحركة انشقاقه عن الجيش اللبناني، واسمى جيشه يومها «جيش لبنان العربي»؟؟ الا تشبه في الشكل ما صرّح به العريف عاطف محمد سعد الدين الذي فرّ من الجيش اللبناني المتعدد الطوائف والمذاهب، والتحق بتنظيم «جبهة النصرة» الاصولي السنيّ.
الخطر ليس في فرار عنصر واحد من الجيش، ولا في ما يقوله، بل الخطر، كل الخطر، في ما قاله الشيخ بلال دقماق، وما يقوله مشايخ كثر غيره، في ان معظم المسلمين السنّة، حتى المعتدلين منهم، يقولون في الخفاء ما يقوله سعد الدين في العلن: واذا لم يسارع القادة السنّة وحلفاؤهم، وخصوصاً رئيس الحكومة الاسبق سعد الحريري، الى معالجة الخلل فان لبنان مقبل على «عرقنة وعلى انتفاضة».
مرة اخرى، ألجأ الى الامثال الشعبية التي احبّها الصديق الراحل ابو علي سلام الراسي وجمعها ونشرها، ومنها ان «أول الرقص حنجلة» ما يعني ان لكل أمر بداية، قد تكون حسنة اذا عولجت، وقد تكون سيئة اذا اهملت، وفرار الجندي عاطف سعد الدين، قد يكون بداية قرع جرس التحذير الى خلل ما، تجب معالجته بسرعة ودقة، وليس اهماله وعدم اعارته ما يستحق من اهتمام، وما اقوله للجميع اقوله، وخصوصاً للذين لا يدرون ثمن هيمنتهم على المؤسسات وتسخيرها لمصالحهم الخاصة، وما تتركه من ذيول سيئة على وحدة الشعب اللبناني.
«اشهد اللّهم اني بلّغت».