يرى كثير من المراقبين السياسيين أنّ العيون تبقى شاخصة إلى العلاقة السعوديّة – الإيرانيّة، لأنّ فيها المفتاح لحلّ كثير من أزمات المنطقة والإقليم، فإذا انفرجت العلاقة بين الرياض وطهران، تنفرج الأزمات في بيروت وصنعاء والقاهرة وصولاً إلى بغداد ودمشق.
وعلى رغم من أن بعضهم يعتقد أن في هذا التشخيص تبسيطاً مبالغاً فيه لأنه يقفز فوق أطراف رئيسية في عدد من النزاعات السائدة في المنطقة، كذلك يقفز فوق كثير من الاعتبارات الداخلية والمحلية التي تتحكّم في المشهد السياسي والأمني في أكثر من قطر عربي.
لكنّ الذين يرون في التفاهم السعودي ـ الإيراني بوّابة حل كل هذه الأزمات، يعتقدون أن من ينظر إلى ما يجري في كثير من الدول يدرك حجم الرياض وطهران وتأثيرهما في تلك الدول، لا بل يعتقد هؤلاء أن كلا الطرفين السعودي والايراني يختزن في موقفه مواقف مجموعة من الدول الفاعلة في المنطقة والعالم.
فالرياض على علاقة وثيقة بمصر وبغالبية دول مجلس التعاون الخليجي وبالولايات المتحدة الأميركية وبدول الغرب، وهي ليست بعيدة عن روسيا والصين ودول «البريكس». وبالتالي فهي، في موقفها النهائي، تتشاور مع جميع حلفائها وتخرج بموقف يعبّر عن موقف هؤلاء الحلفاء جميعاً، بما فيهم اللاعبون غير الرسميين من قوى الحراك المسلّح في هذا القطر العربي أو ذاك.
وفي المقابل، فإن طهران تعبّر في مفاوضاتها مع الرياض، إذا تمت، عن مواقف قوى فاعلة في المنطقة والعالم أيضاً، فعلاقتها بسوريا وبـ»حزب الله»، مثلاً، ليست خافية على أحد؛ وعلاقتها بدول «البريكس»، وفي مقدّمها روسيا والصين، هي علاقة وثيقة ترشحها للانضمام قريباً إلى هذه المجموعة الصاعدة في العلاقات الدولية. وبهذا المعنى ينطبق على الرياض وطهران قول الشاعر: «أتحسبُ أنّك جرمٌ صغيرٌ… وفيك انطوى العالم الأكبر».
ويضيف هؤلاء السياسيون أن تفاهماً سعوديّاً ـ إيرانيّاً كفيل، مثلاً، بحلّ الأزمة الرئاسية في لبنان، على رغم من أدوارٍ أُخرى محلية وإقليمية ودولية لا ينبغي الاستخفاف بها.
والأمر نفسه ينطبق على اليمن، فمثل هذا التفاهم الثنائي السعودي ـ الإيراني ستكون له انعكاسات مباشرة على الأوضاع الداخلية في اليمن، إذ لا ينكر أحد دور الرياض في المبادرة الخليجية التي جاءت بالرئيس عبد ربه هادي منصور إلى رئاسة اليمن، خلفاً للرئيس علي عبدالله صالح.
كذلك لا ينكر أحد دور إيران في دعم «أنصار الله» بزعامة عبد الملك الحوثي، والذين يملأون اليوم شوارع صنعاء وميادينها بالمسيرات وبخيَم الاعتصام.
وفي العراق أيضاً تبقى التشكيلة الحكومية المرتقبة في جزء كبير منها، نتاج تفاهم بين الرياض وطهران، لأن الساسة العراقيين بغالبيتهم متأثرون بهذه العاصمة أو بتلك.
وعلى رغم من أن المشهد السوري لا يمكن اختصاره بإحداثيات الخلاف الإيراني ـ السعودي، فإن للرياض وطهران تأثيراً غير بسيط في كفتي النزاع في سوريا، وإن كانت حصة الرياض في كفة المعارضة تتراجع لمصلحة تركيا وقطر من جهة، ولمصلحة التنظيمات المتشدّدة التي باتت لها مواردها المستقلة.
صحيح أن هذا التحليل يصيب جانباً كبيراً من كبد الحقيقة، لكنّه لا يجيب عن أسئلة بالغة الدقة، منها: أين دور المحور التركي ـ القطري ـ «الإخواني» في مثل هذا الوضع، وخصوصاً أن لهذا المحور تأثيراته الممتدة من القارّة الهندية حتى شواطئ الأطلسي؟
وأين مصر من مثل هذا التفاهم الإيراني ـ السعودي؟ وهل تستطيع العلاقة القويّة بين القاهرة والرياض أن تتجاوز دور مصر لمصلحة المملكة العربية السعودية في قضية استراتيجية كهذه؟
لهذا يفهم المراقبون الغزل الإيراني لمصر، والذي عبّر عنه أكثر من مسؤول إيراني بأنه جزء من تسهيل عملية التفاهم السعودي ـ الإيراني، تماماً كما يرى هؤلاء في الانفتاح السعودي على طهران محاولة لتسهيل الوفاق الأميركي ـ الإيراني.
وفي كل الحالات يرى هؤلاء المراقبون أن ما يسهّل هذا التقارب الإيراني ـ السعودي، أنه يأتي في إطار تحالف دولي لمكافحة الإرهاب يخلط كل الأوراق في المنطقة، ويضع خصوم الأمس في غرفة عمليات واحدة لمكافحة الإرهاب، وخصوصاً أن «داعش» بتوجهها جنوب العراق تشكل تهديداً لأمن المملكة العربية السعودية، فيما هي بتوجهها شرق العراق إنما تحمل تهديداً للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
فهل توحّد «داعش» في أسابيع ما فرقته العقود بين الرياض وطهران العاصمتين الكبيرتين في المنطقة؟ وهل يدرك أصحاب القرار في الرياض وطهران، بل في كل العواصم، أن تهديد الجماعات المسلحة يطاول الجميع، وأن هذه الجماعات ما قامت أصلاً ولا توسّعت وتمدّدت، ولا انتشرت واخترقت، إلا بسبب التفرقة بين عواصم المنطقة، واعتقاد هذه العاصمة أو تلك أن في امكانها استخدام هؤلاء المتشددين لإضعاف العاصمة، أو العواصم الأُخرى، فيما القانون الذي يحكم مثل هذه المجموعات، هو قانون «اضرب حيثما تستطيع ولا تقف كثيراً أمام تحالف من هنا وتحالف من هناك»؟
وتبقى دائماً صورة 11 أيلول في نيويورك، والتي سيحتفل العالم بذكراها الثالثة عشرة بعد أيام، ماثلة في الأذهان كدرس ينبغي على الجميع أن يتعلموا منه «أن مثل هؤلاء المتشددين، مهما احتضنتهم في وجه خصومك، فإنّهم سيلسعونك في أول فرصة مناسبة». وليتذكر الجميع هنا قول الشاعر: «مَن يجعل الضرغام بازاً في تصيّده… تصيّده الضرغامُ في ما تصيّد».