جاء الجنرال لويد أوستن قائد القيادة المركزية الأميركية إلى العراق وأفغانستان. وقد جاء في الأخبار أنه يُنتظر أن يأتي قريبا أيضا وزير الدفاع الأميركي هيغل إلى المنطقة. في أفغانستان ما صرّح أوستن بشيء، والأمر على كل حال لا يحتمل التصريح. فمرشح أميركا وإيران للرئاسة هناك هو عبد الله عبد الله. وهو كان وزير خارجية تحالف الشامل (= أحمد شاه مسعود)، ولعب دورا مهما في تسهيل الغزو الأميركي لبلاده، وليس بالتنسيق مع القوات الغازية فقط؛ بل وبإقناع إيران بالتعاون لإزالة «القاعدة» وحكومة طالبان. وقد عمل وزيرا للخارجية في حكومات كرزاي، لكنه – بتشجيعٍ من الأميركيين للضغط على كرزاي – ترشح ضده عام 2009، وبنى من حوله شعبيةً باعتباره بشتوني الأب، طاجيكي الأم، إيراني الهوى، وموثوقا من جانب الولايات المتحدة! وما استطاع عبد الله الفوز من الدورة الأُولى، وهو يستعد للدورة الثانية في 15 يونيو (حزيران). ومن ضمن استعداداته أنه غيَّر نائبه الطاجيكي، وأتى بزلماي رسول البشتوني نائبا له. وزلماي رسول من رفاقه في الوزارة، ويقال إنّ كرزاي رشحه للرئاسة فحصل على 11 في المائة من الأصوات، في حين حصل البشتوني الرئيسي قاسم غني على 35 في المائة، وحصل عبد الله عبد الله على 45 في المائة.
أميركا في أفغانستان كما في العراق دولةٌ غازية. ولذلك لم تتعاون مع قواتها الأكثرية البشتونية، وبقيت مع طالبان أو على الحياد. في حين تعاملت الأقليات الإثنية والطائفية (وكلها كانت منضوية في تحالف الشمال) مثل الطاجيك والأوزبك والهزارة الشيعة (يقال إنّ قائد الكتائب العراقية في معركة يبرود كان منهم!) بكثافةٍ مع المحتلين. وقد شجعت إيران بالطبع الهزارة على ذلك. وطوال السنوات الاثنتي عشرة الماضية (2002 – 2014) كان البشتون المشاركون في «العملية السياسية» وعلى رأسهم كرزاي، من التقنيين، ويخشون الحراك الكثير حتى لا تستهدفهم طالبان باعتبارهم خونة. ولذا فإن الكبار في الجيش وأجهزة الدولة الأُخرى هم في غالبيتهم العظمى من الهزارة والطاجيك.. فالأوزبك. وما نجح كرزاي الذي أتى به الأميركيون في التصالح مع طالبان، الذين يشترطون خروج الأميركيين والأطلسيين أولا. وحاول الأميركيون (منذ عام 2009 – 2010) التفاوض أو حتى التواصل بالحد الأدنى مع طالبان بداخل أفغانستان وفي الدوحة بقطر. وما أفضى ذلك إلى شيء ملموس. ولذا فإنّ الأميركيين انصرفوا منذ سنتين إلى تهيئة خروجهم من أفغانستان بطريقةٍ مشابهةٍ للخروج من العراق (2010 – 2011). وهذا يعني: الشراكة الإقليمية مع إيران ومع الهند ومع روسيا، وبمعزلٍ عن باكستان وعن طالبان بالداخل! وعبد الله عبد الله هو المرشَّح المثالي للطرفين، وهو ألطف من المالكي، وله علاقاتٌ بأوساط بشتونية محترمة. وقد يستطيع الحصول على دعم كرزاي وجماعاته الذين لا خبز لهم ولا طحين عند طالبان! وقد تحدَّث الباكستانيون إلى الأميركيين بإلحاح بعد مجيء نواز شريف إلى السلطة، عن عبثية السياسة الأميركية في أفغانستان، وفي باكستان. ولذا ففي الوقت الذي جاء فيه الجنرال لويد أوستن إلى أفغانستان، ذهب نواز شريف إلى إيران في أول زيارةٍ له أيام روحاني. ذلك أنّ مجيء عبد الله عبد الله إلى رئاسة الجمهورية من طريق تحالف الأقليات، وإعراض البشتون عن الاقتراع، يعني نشوب حرب أهلية بين الأعراق، ستكون إيران جزءًا منها، وكذلك باكستان. وهذا يعني المزيد من الاضطراب للعقد القادم. فباكستان من أنصار البروفسور قاسم غني، الذي يستطيع الحديث إلى طالبان، وإلى الاثنيات الأُخرى، وليس لأحدٍ ثاراتٌ عنده، بخلاف عبد الله عبد الله. إنما في ضوء التجارب التي نعرفها لسياسات أوباما بالمنطقتين الإسلامية والعربية، فالراجح أن يبقي الأميركيون على سياساتهم في أفغانستان التي تُحابي الأقليات على حساب الأكثرية، بحجة أنّ الأكثرية ضد الأميركيين، ومتطرفة وإرهابية. والمسؤولون الأميركيون جميعا يعتمدون – كما قال بعضهم – على التعاون الإيراني، ليس في إقامة السلطات بعد الانسحاب فقط؛ بل وفي انسحابهم هم أيضا من طريق إيران بدلا من الاعتماد على الطريق الباكستاني أو الطريق الروسي!
ولننظر في زيارة الجنرال لويد أوستن للعراق. في هذه الزيارة ما وجد الجنرال ضرورةً للصمت. قال منذ البداية إنّ الأميركيين شركاء المالكي في مكافحة الإرهاب و«داعش» بالأنبار. وإنهم أرسلوا أسلحةً وتدريبات وسيرسلون. وما تأثر الجنرال بما قاله له أُسامة النجيفي رئيس مجلس النواب العراقي، وهو السني الوحيد الذي قابله. قال له إنّ المالكي هو الذي تسبّب بهذا الإرهاب. فقد ضرب الصحوات التي تعاونت مع الأميركيين وطردت «القاعدة». ثم إنه لم يستجب للمطالب السياسية المحقة للمعتصمين لأكثر من عام في ثماني محافظات. وأخيرا فإنّ المقاتلين المتشددين بالفلوجة اليوم نصفُهُم من الخارجين من سجون المالكي بأُعجوبة! ولذا لا حلَّ إلاّ الحلّ السياسي، والناس الذين يعترف المالكي بحقوقهم كمواطنين، هم الكفيلون بالقضاء على التشدد، وبالحفاظ على وحدة العراق. وتابع النجيفي: نحن نركض وراءكم إلى واشنطن منذ عام 2010 وننذركم بفشل العملية السياسية إن بقي هذا الرجل في الواجهة، والجنرال سليماني في الباطن. والآن استفقتم فقط على وقع الإرهاب، الذي قتل عشرات الألوف منذ عام 2010 دون أن تُحركوا ساكنا! عندي انطباع يا جنرال أنكم تريدون استمرار الاضطراب بالعراق وغير العراق، وتعتمدون على إيران في مكافحة «الإرهاب» في أَوساطنا نحن العرب في كل مكان!
أما الأميركيون فهم حاسمون في الوقوف مع المالكي، وفي تزويده بشتى أنواع الأسلحة، التي يعلمون أنّ بعضها سيتسرب لإيران. بيد أنّ خيارات الإيرانيين أوسع. فكل التحالف الشيعي بيد الجنرال سليماني، ولديه عملاء مدفوعو الأجر لدى السنة والأكراد. وهو يبدو متمسكا بالمالكي حتى الآن، لكنه يجري مشاوراتٍ دوريةً مع سائر الأطراف، ويحاول إقناعهم بالخيار الإيراني الأول أو يتظاهر بالاستماع إلى اقتراحاتهم. وقد يقبل الإيرانيون في النهاية رجلا آخر غير المالكي من حزبه أو من المجلس الأعلى، إنما ليس من جماعة الصدر. وربما قبلوا سياسيا، مثل الجلبي لا يملك قوةً تشجّع على التمرد. لكن في كل الأحوال، لن يكون من يقبله الإيرانيون أقلّ ولاءً لهم من المالكي، وربما كان أسوأ في التعامل مع الفرقاء السياسيين الآخرين.
الإيرانيون يريدون الاستمرار في السيطرة بالعراق وسوريا ولبنان. ويفضّلون أن يسيطروا بالوجوه نفسها أو ذاتها. فقد سبق أن تشبّثوا بالرئيس اللبناني إميل لحود، ولم يعتبروا بما أصابهم وأصاب الأسد ونظامه من جراء ذلك. وتمسكوا بالمالكي للمرة الثانية ووضعوا الأمر وقتها في ظهر الأميركيين. أما اليوم فهم منفردون بالبلدان الثلاثة، ولا يقبلون أن يُزعجهم أحد. بل إنهم يعتبرون مناطق النفوذ هذه جزءًا من الاتفاق مع الولايات المتحدة. وإن انزعجت أميركا ولو قليلا يهددونها بروسيا التي هي مستعدةٌ الآن لدعم إيران فيما تعرف ولا تعرف!
لكنْ، ما هي دوافع الأميركان لكلّ هذه السياسات في العراق وأفغانستان وسوريا ولبنان؟ وماذا تستفيد من خراب البلدان، وإزهاق الأرواح، وتهجير السكان؟ لا يجيب الأميركيون صراحةً على هذه التساؤلات. إنما المعروف أنهم يعللون التقارب مع إيران بتجنب الحرب على النووي، والتهدئة في العراق وأفغانستان ولبنان، ومكافحة الإرهاب في كل مكان. أما في سوريا فيقولون إنّ دور إيران غير بنّاء على الإطلاق!
هل من سياسات أميركية جديدة بالمنطقة؟ لا، بل منذ عام 2009 هي السياسات ذاتها، والتي لا يستفيد منها غير الإيرانيين والإرهابيين الصاعدين. وقد أورثت خرابا في عدة بلدانٍ عربية وإسلامية والحبل على الجرار. ولا حول ولا قوة إلا بالله.