الفارق بين الاضطهادين، اضطهاد التكفيريين للمسلمين واضطهاد التكفيريّين للمسيحيّين، أنه سيبقى مسلمون وكُثُرٌ بعد زوال موجة الإرهاب الأصولي، بينما قد لا يبقى مسيحيّون بعد زوالها.
في أول أيام عيد الفطر، اتصل بي صديقٌ مسيحي لبناني أمضى معظم حياته العامة ليس فقط بين المسلمين بل بين “أيديولوجياتهم” أيضاً إذا جاز التعبير، وكان جزءاً دائماً، منذ تفتّح وعيه السياسي، من “انفعالات” المسلمين السياسيّة، أي من “عواطفهم” السياسية إذا جاز التعبير أيضاً وأيضاً.
هذا الصديق، الذي لن أفصح عن إسمه بسبب قاعدة “التليفونات بالأمانات” على وزن “المجالس بالأمانات”، وبعد أن هنّأني بالعيد سألني فجأةً:
هل هناك مسلمٌ معتدل؟
لم أجِبْهُ على سؤاله أولاً لأنه لم يكن يسأل بحثاً عن إجابة وثانياً لأن الإجابة بديهيّةٌ، فسألتهُ لماذا تطرح هذا السؤال؟ و أنا أعلم أن شخصاً بالمواصفات الثقافية العروبية والخبرة الملموسة في الحياة العامة اللبنانية والعربية كان يريد بسؤاله هذا تسجيل موقفٍ اعتراضي على سيطرة الذهنية الأصولية ليس فقط سياسيا بل اجتماعياً على العديد من البيئات المسلمة، سنّةً وشيعة، وإخضاعها للمعتدلين من المسلمين ثقافياً.
أخبرني هذا الصديق أنه قبل مكالمته معي اتصل بصديقٍ قديم له هو وزيرٌ مسلم في الحكومة اللبنانية الحالية وسأله السؤال نفسه: هل هناك مسلمٌ معتدل؟ فما كان من الوزير إلا أن عبّر عن معاناته من المتطرّفين في بيئته.
شرائح كبيرة من نخب العالم الإسلامي “معتدلة”، وأكثرية هذه الشرائح من مراكش إلى القاهرة ورام الله وبغداد ودمشق ذات توجّه مدني غير ديني إن لم يكن علمانياً بالمعايير الغربية للعلمانية. أقول ذلك مع أن صفة “معتدل” أُفرِغتْ من محتواها أو جرى تشويهها بإطلاق الغرب هذه الصفة قياساً على معيار واحد هو مدى ولاء النظام المعني في سياسته الخارجية لهذا الغرب فقط. أنحاز شخصيا لمعيار التوجّه غير الديني في رؤية الحياة العامة وترك الدين للمجال الخاص أما في المجال العام فالنظر إلى الدين كإرث ثقافي عميق للمجتمع وليس كمنهج سياسي لمعالجة المشاكل المعاصرة لعلاقة الدولة بالمجتمع. قدّمت تونس مع دستورها الجديد إمكانية بناء تجربة معاصرة في الديموقراطية وشاركت قوة رئيسية من “الإسلام السياسي” هي “حركة النهضة” في هذا الخيار التحديثي، بينما ينصرف الأمن التونسي حالياً، مدعوماً من الطبقة السياسية العلمانية والإسلامية، بمواجهة الطاعون التكفيري.
أما جماهير الفقر في عشوائيات القاهرة ودمشق وبغداد والدار البيضاء وطهران وفي أرياف التخلف وضيق الفرص الاقتصادية فماذا كان علينا أن نتوقّع منها في الخمسة وثلاثين عاماً الأخيرة غير أن تفرز ثقافة التطرّف الديني التي باتت تهدّد جدّياً ما تبقى من تنوع ديني وقومي في منطقتنا أي الهلال الخصيب والعراق ومصر.
دعونا نلجأ إلى استدراكات هنا:
الأول هو أن تصفية التنوّع الديني في مدن وأرياف هذا المشرق بدأت لأسباب مختلفة منذ أوائل القرن العشرين. ليست التصفيات كلها بأخطاء المسلمين وحدهم. فالتوتر القومي التركي الأرمني اليوناني في الأناضول باشر أوائل هذه الموجات. ولعب تأسيس إسرائيل دورا حاسماً في جعل استمرار المكوِّن اليهودي في مجتمعاتنا العربية أمراً مستحيلاً بسبب عنف التأسيس المترافق مع الطرد الأعنف للفلسطينيّين من بلادهم.
الثاني أن الراديكالية القومية التي ظهرت منذ الخمسينات من القرن المنصرم رغم علمانية كوادرها المؤسِّسة كانت الشكل الذي لبسه “الإسلام السياسي” بصيغة تلك المرحلة. فالرئيس جمال عبد الناصر رغم امتداد جاذبية شخصيّته إلى كل العالم الثالث بتعدد أديان وقوميات ذلك العالم، كان عملياً زعيم مسلمي العالم العربي وإفريقيا. وعلى مستوى أضيق جماهيرياً مثّل “حزب البعث” في مرحلة تأسيسه قراءة إسلامية للتاريخ القومي العربي.
الثالث هو أن معظم الأنظمة العربية التي حكمت بعد عام 1967 كانت وهي في ذروة مواجهتها في الأمن والسياسة للحركات الإسلامية الأصولية قد دخلت في وضع سبق أن وصفتُهُ قبل سنوات بأنه “تسليم السلطة الثقافية للمسلمين المحافظين أي للأصولية الاجتماعية” عبر قبولها التوجّهاتِ الدينية المحافظة بل تشجيعها هذه التوجّهات في القضاء والإدارة والجامعات والصحافة كنوعٍ من التأكيد على “إسلاميّتها الورعة” ضد التيارات الجهادية الأصولية. كان ذلك يحدث على أكثر من مستوى في مصر الرئيس حسني مبارك وسوريا الرئيس حافظ الأسد الذي رعى حركة بناء مساجد بشكلٍ غير مسبوق في سوريا أو عراق الرئيس صدام حسين الذي رفع شعارات إسلامية أصولية في سنواته الأخيرة كرد ديني على عزلة نظامه.
إذن هو مسار طويل من تلاشي التنوّع بلغ مرحلته الفجّة والفضائحية والبشعة مع ظهور تنظيمات مثل “طالبان” و”داعش” تجاوزت كل ما سبقها من”الإخوان المسلمين” والاسلام السياسي الإيراني الذي أمسك السلطة منذ عام 1979 وكان نجاحه منطلق تجديد حيوية التيارات الأصولية السنية المعاصرة حتى لو انقلبت لاحقا عليه قوى عديدة منها وبات يخوض حروباً ضارية معها في سوريا والعراق وباكستان وحتى لبنان.
إذن سؤال الصديق “هل هناك مسلم معتدل؟” يعكس (ولا يخفي) خيبةً عميقة وربما وجودية من لبناني أو مسيحي لبناني
حيال التفاقم الصادم والسهل للتطرف الإسلامي وليس طبعاً حيال المسلمين. إنه سؤال الخيبة وأكاد أقول ثقافة الخيبة.
الاعتدال، بالنتيجة، هو مهمة النخب المسلمة هذه الأيام. مهمة المراجعة بالمعنى العميق للكلمة، المعنى الذي لا يكفي معه القول أن عدد ضحايا المسلمين من التطرّف والاستبداد أكبر من عدد الضحايا المسيحيين.
الفارق بين الاضطهادين، اضطهاد التكفيريين للمسلمين واضطهاد التكفيريّين للمسيحيّين، أنه سيبقى مسلمون وكُثُرٌ بعد زوال موجة الإرهاب الأصولي، بما فيها الأصوليّة الاجتماعية، بينما قد لا يبقى مسيحيّون بعد زوالها. ويكفي النظر لما جرى في الموصل لنسأل عن نسبة احتمال أن تكون ضربة قاضية للمسيحيين فيها حتى، افتراضاً، لو توفّر غداً من يقضي على “داعش”.