دونما أدنى شك أو أي بارقة أمل تلوح في أفق المعطى الراهن الذي يعيشه اللبنانيون الآن، فإن لبنان يسير في خط انحساري نحو كارثة محققة لم يشهد مثيلاً لها منذ نشأته. وعندما نحذر من هذه المخاطر، فإن ذلك ينبع من المسؤولية الوطنية والحرص الثابت الذي لا يتزعزع على ديمومة هذا الوطن المعذّب وعيشه الكريم بعيداً عن أي وصاية خارجية وإملاءات داخلية يفرضها منطق قسري إرهابي مستند إلى سلاح حزب الله الذي تحوّل منذ انسحاب الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 إلى عبء متصاعد الخطورة، فقدَ أي مسوّغ أو مبرر مقبول لوجوده، راحت الوقائع تؤكد الأحداث ليس عدم جدواه فحسب، بل تحوله إلى حالة انقلابية فعلية حوّلت حياة لبنان بشعبه ومؤسساته الوطنية ومرافقه إلى جحيم مخيف لا يطاق. فقد أصبح من نافل الكلام تذكير شعبنا بتلك الأحداث التي هزّت وزعزعت كيانهم الوطني وتوقهم إلى الاستقرار في ظل ورشة الإعمار التي قادها الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه الذين راحوا يضرجون أرض لبنان بدمائهم الزكية الواحد تلو الآخر دفاعاً عن لبنان. فمنذ اغتيال القضاة الأربعة عام 1999 بدأت تعمل الماكينة الشيطانية الشريرة التي قادها نظام الوصاية الأسدية وصولاً إلى اللحظة التاريخية الراهنة، على تدمير موقع مدروس لكل ما هو واعد بمستقبل مشرق في الوطن الصغير.
ماذا يدور في لبنان الآن وما حقيقة ما يجري؟ فلنصارح أنفسنا بالوقائع والحقيقة التي نواجهها بكل شفافية وصدق وشجاعة من دون مراعاة أو مواربة قط. إننا نواجه مؤامرة هي غاية في الخطورة على حاضرنا ومستقبلنا على الصعد والمستويات كافة. فقد أصبحت البلاد بلا رئيس بعد انتهاء ولاية الرئيس الصالح الأصيل ميشال سليمان الذي ظل طيلة جلوسه في موقع الرئاسة الأولى يناضل ويعاند ويواجه بعين ثاقبة وإيمان ولا أنبل الأزمات الخانقة بصبر وثبات من دون صخب أو ضجيج إعلامي كاذب. فقد فاق بمواقفه الوطنية كل التوقعات. فقد رفض إملاءات النظام الأسدي في دمشق ومن ورائه أطماع طهران التي اكتسحت العراق وحوّلت النظام الأسدي إلى دمية تتلاعب بها وصولاً إلى لبنان بل إلى فلسطين واليمن والسودان أي إلى كل دنيا العرب قاطبة.
فقد رفض حزب الله عملياً إعلان بعبدا وانجرّ وتورّط بل غرق تماماً في الحرب الدموية القاتلة في سوريا، بل راح يقدم لنظام بشار الأسد الذرائع والمسوغات بل العباءة الضرورية ليستمر بالمقاومة بعد إفلاس مقولة الممانعة وهو الحارس الأمين لحدود إسرائيل الشمالية طيلة 41 سنة.
ان البرلمان اللبناني لم يعد قادراً الآن على انتخاب رئيس للجمهورية جديد بملء الفراغ الكبير الذي نجم عن عودة الرئيس الصالح الامين إلى منزله في عمشيت. فالتلاعب بالنصاب ذاهب بنا إلى حدوده القصوى. فإما رئيس خاضع لإملاءات حزب الله واطماع النظام الايراني ودميته في دمشق، يعلم جميع اللبنانيين من هو وما هي ملامحه وأحلامه الرئاسية منذ ارتمائه في احضان حزب الله عام 2006، واما لا رئيس على الاطلاق. ان اعلان الدكتور سمير جعجع ترشيحه وتبني قوى 14 آذار ذلك الترشيح، جاء ليؤكد تمسكنا بمؤسساتنا الدستورية والاصول الديموقراطية التي لا غنى عنها لاستمرار لبنان في ظل المنطقة العربية التي تموج بالأحداث. ولم تجد جميع محاولات الزعيم الوطني الكبير وليد جنبلاط بالخروج من الأزمة الرئاسية المخيفة، ولا كل جهود بكركي الصابرة على الاتهامات الباطلة حيال حرصها على رعاياها الموارنة حتى في ظل الاحتلال الاسرائيلي. فلم يعد بالإمكان معرفة إلى اين تريد قوى الامر الواقع دفع البلاد من خلال الفراغ والتعطيل لمؤسستي الرئاسة الأولى والبرلمان.
وها نحن نشهد أزمة معيشية اقتصادية مالية لا مثيل لها في تاريخنا. فالامتحانات الرسمية مهددة وتعطيل لمستقبل عشرات الالوف من الطلاب. ففي ظل غلاء فاحش يضرب عميقاً الطبقات الشعبية، وبوار وتصحّر قطاع السياحة بعد ازدهار مدمر لمنطق معاداة العرب، وافلاس المؤسسات الاقتصادية، ها نحن نواجه ازمة سلسلة الرواتب التي يراد لها ان تتحول إلى صاعق تفجير لا يقودنا إلى العجز المالي فحسب بل إلى الافلاس كما في اليونان.
فالمطالب المحقة للأساتذة والمدرسين بكل اصنافهم وقطاعيهم الرسمي والخاص، تصطدم بعجز فاضح مالي وعدم قدرة فعلية على توفير المصادر المالية الضرورية لتلبية هذه المطالب، ذلك ان الهدر المالي والفساد يضرب بدوره المرافق الوطنية، فلم يعد سراً يباح للبنانيين اية دولة داخل الدولة تجني ارباحاً طائلة من خلال السيطرة على المرافق والمؤسسات.
إن الموقف الشجاع العقلاني المسؤول لتيار المستقبل العمود الفقري لقوى 14 آذار بالعمل الحثيث على ترشيد المطالب المحقة للقطاعات التي تتحرك الآن، والتحذير من منطلق المسؤولية الوطنية من الغرق المميت في الانهيار المالي والافلاس النهائي، يجب ان يلقى آذاناً صاغية من قبل رفاقنا قيادة وقاعدة. ونحن واياهم في خندق واحد للكفاح المستمر لإخراج البلاد من أزمتها الراهنة.
آخذاً بنصائح وتحذيرات الخبراء الماليين وعلى رأسهم العقل الاقتصادي والمالي المستقيم رياض سلامه، والمطالب المحقة والعادلة في صلب تعديل سلسلة الرتب والرواتب هو مسألة في غاية الأهمية والخطورة. فالتحذير من مخاطر التضخم المالي، وتدهور القوة الشرائية لليرة اللبنانية سيقابله حتماً تصاعد مخيف في سعر صرف نقدنا الوطني في شراء القطع النادر، فالسلة المعيشية للفئات المتوسطة والشعبية ستصاب حتماً عندها وفي الصميم، فما الجدوى عندها من زيادات بسخاء مصطنع في الرتب والرواتب، يقودنا إلى الانهيار؟
إن الدعوة إلى الاصلاح الاداري والمالي وضرب الفساد ووقف الهدر يظل مرتبطاً بمسائل وطنية أخرى منها ما هو سياسي وأمني لم تعد خافية على أحد، يجب ان تلقى آذاناً صاغية من زملائنا في جميع القطاعات.
فالمطالب المحقة والشعبية مسألة مقدسة لكن يجب ان تحكمها العقلانية والرشد السياسي والوطني، فلا تتحولن والحالة هذه إلى اداة اخرى للتعطيل، فتقدمن عندها لقوى التعطيل والفراغ والخواء خدمات مجانية، ونتحول إلى ادوات لا واعية لمخطط مدروس متقن الحبك، يقودنا جميعاً إلى هوة الإفلاس.