اختلاف القراءة بين الإسلاميين حول «الأدوار المصطنعة»
هل يستمر السلفيّون في انكفائهم بعد أحداث العراق؟
يتابع السلفيون تفاصيل ما يجري من أحداث في العراق بدقة متناهية، وينتظر بعضهم ما ستؤول إليه الحروب الدائرة هناك بين تنظيم «داعش» والجيش العراقي ليبني على الشيء مقتضاه.
تشير مواقع التواصل الاجتماعي الى أن عددا كبيرا من السلفيين الذين يحملون الفكر الجهادي قد تنفسوا الصعداء بالتقدم الذي حققه تنظيم «داعش» في بعض المدن العراقية، وهم وإن كانوا يحرصون على عدم التعبير عن مكنوناتهم في العلن أو عبر عودتهم الى دائرة الضوء عبر التحركات الميدانية التي انكفأوا عنها منذ انطلاق الخطة الأمنية في كل لبنان، فإن ما يغردون به على صفحاتهم يشير الى عودة الروح إليهم، والى أن ما تقوم به «داعش» منحهم زخما كانوا قد افتقدوه خلال المرحلة الماضية.
ويرى بعض هؤلاء «أن زمن الهزائم قد ولى الى غير رجعة، وأن الجيش الاسلامي بفصائله المختلفة بدأ بتحرير المناطق غير الخاضعة للحكم السني في العراق، وأن ما يحصل من انتصارات سينعكس قوة كبرى على كل الحالة السلفية الجهادية في كل البلدان العربية». وذهب بعضهم الآخر الى أبعد من ذلك متوقعا أن يكون ما تقوم به «داعش» في العراق هو «مقدمة حقيقية لاعلان دولة الخلافة على أرض الشام، وأن ذلك لن يكون بعيدا»، فضلا عن كثير من التعليقات المذهبية التي يرى أصحابها «أنها نتيجة طبيعية للحالة المستجدة في العراق»، موجهين الاتهامات الى رئيس الحكومة نوري المالكي بأنه «يتعامل بمذهبية بغيضة مع كل المكونات السنية هناك».
ويمكن القول ان ثمة حربا بين المكونات السلفية على مواقع التواصل الاجتماعي، فلا تقتصر التعليقات على الجهاديين منهم فقط، بل تتسع لتشمل من يخالفهم الرأي ممن يتبعون «السلفية العلمية» الذين يقفون ضد تنظيم «داعش» وكذلك «جبهة النصرة»، ويرون أن ما يحصل يدخل في إطار مؤامرة جديدة على السنّة في العالم العربي، ومحاولة إظهارهم بأنهم مصدر الارهاب في المنطقة، وأن كل الأطراف السياسية والدينية الأخرى هي مع الاعتدال وضد كل الأعمال الارهابية التي لا تقتصر على «داعش» في العراق بل يشارك فيها كل المتضررين من حكم نوري المالكي من بعثيين وضباط جيش وعشائر، لكنها تنسب كلها الى هذا التنظيم بما يحقق أهداف المؤامرة الجديدة، لافتين الانتباه الى أن ما تحققه «داعش» من انتصارات لن يطول، بل سيتم القضاء عليها عندما تنتهي وظيفتها، وعندما تكتمل فصول المخطط الذي تنفذه الدول الكبرى.
وبالرغم من الخلاف الجوهري بين الطرفين السلفييّن، فإنهما يجتمعان على فئة من السلفيين لا تزال تنأى بنفسها عن اتخاذ أي موقف حيال ما يجري في العراق، ويتهم الطرفان هذه الفئة بأنها تنتظر أن تتبلور الأمور، فإما أن تعلن موقفا داعما لدولة الاسلام، أو أن تحملها مسؤولية توريط الاسلاميين في اتون حرب إقليمية جديدة.
ويأتي الحراك السلفي، وإن كان عبر مواقع التواصل الاجتماعي هذه المرة، بعد الانكفاء التام للمشايخ والمجموعات المسلحة منذ انطلاق الخطة الأمنية في طرابلس وكل لبنان، حيث غابوا عن السمع وعن الظهور الاعلامي، بعد النصائح التي أسديت لهم بضرورة عدم القيام بأي «دعسة أمنية ناقصة»، لأن الغطاء السياسي والديني مرفوع عن الجميع.
وتشير المعطيات الى أنه مع دخول الخطة الأمنية حيز التنفيذ واقتناع الجميع بأن أحدا غير قادر على مواجهتها، أقله في المدى المنظور، ومع انتهاء وظيفة الحدود اللبنانية ـ السورية الشمالية بسقوط قلعة الحصن والقرى المحيطة بها بيد الجيش السوري وفرار المسلحين منها، ومع تبدل موازين القوى داخل سوريا لمصلحة النظام، وقيام المجموعات الاسلامية المعارضة بتصفية بعضها البعض، وتوقف مصادر التمويل من بعض الدول الخليجية لا سيما المتعلق منها بالعمل الأمني، وعودة تيار «المستقبل» عن كل «لاءاته» ودخوله شريكا أساسيا مع «حزب الله» في حكومة «المصلحة الوطنية» برئاسة تمام سلام، وتسلم صقوره أبرز الوزارات، وإعلان الرئيس سعد الحريري الحرب على الارهاب والتطرف، فضلا عن تنامي الحديث عن تقدم المفاوضات السعودية ـ الايرانية وقرب الوصول الى تسوية شاملة…
كل ذلك أدى الى اقتناع الحالة السلفية بأن مجريات الأمور لا يمكن أن تتوافق مع استمرارها في اندفاعتها الشعبية السابقة، فآثرت الانكفاء والتعايش مع المستجدات الحاصلة، والتخفف من المجموعات التي تحلقت حولها، كما انفض عنها أكثرية من كان يستفيد من تحركاتها. وغاب أركانها عن شاشات التلفزة، ما ساهم في اعادتها الى حجمها الطبيعي، الذي غالبا ما تكون عليه في أيام السلم، ودفع بعض تياراتها الى اعتماد الخطة «ب»، التي تقضي بالتخلي عن الشارع والعودة الى المساجد والاهتمام بالمعاهد والمدارس، أو بالتجارة بعدما نجح البعض في تحقيق مكاسب مالية من الفترة الماضية.
وقد انسحب هذا الانكفاء من طرابلس والشمال الى كل لبنان، وترجم بتقديم أحد المشايخ المعتدلين الشيخ مالك جديدة، الى رئاسة «هيئة علماء المسلمين».
كما ترجم أيضا، بقيام الأجهزة الأمنية بتوقيف الداعية الشيخ عمر بكري من دون حصول أي احتجاجات، خصوصا أن كثيرا من المشايخ يعتبرونه المحرّض الأساسي للشباب على الدولة ومؤسساتها وعلى الخطة الأمنية الأخيرة، وهذا برأيهم لا يصب في مصلحة توجهاتهم.
لكن، هل تعيد أحداث العراق السلفيين الى الساحة اللبنانية من بابها الواسع، كما حصل مع بداية الأزمة السورية وتنامي حضور «جبهة النصرة» هناك؟ وهل سيبقى مشايخ الحالة السلفية يعتمدون الخطة «ب»، أم أن بعضهم عاد الى الخطة «أ» وبدأ يعد العدة لتحركات ميدانية تترجم حالة الانتعاش التي أصابته جراء التقدم الذي حققته «داعش» في «العراق»؟ أم أن الحراك سيبقى أسير صفحات التواصل الاجتماعي؟ وكيف ستتعاطى الأجهزة الأمنية مع التحركات في حال حصلت في ظل تأكيد الوزراء المعنيين في أكثر مناسبة أن حكومة المصلحة الوطنية مهمتها الأساسية محاربة الارهاب؟ وكيف يمكن مواجهة هذه التحديات في ظل الانقسام السياسي العمودي والفراغ في سدة رئاسة الجمهورية؟.
يقول أحد المراجع السلفيين لـ«السفير»: «يجب على السلفيين أن يتخلوا عن العمل السياسي والأمني وعن التحركات في الشارع، وأن يعودوا الى المساجد والمعاهد ويأخذوا دورهم في الدعوة الى الله، وأن يتخلوا أيضا عن الأدوار المصطنعة التي وضعت لهم والتي حاولت بعض التيارات السياسية استخدامهم من خلالها في وجه خصومهم قبل التخلي عنهم، كما حصل في مراحل سابقة، خصوصا أن الجميع يتوافقون اليوم على محاربة الارهاب، هذه التهمة التي تلصق بالسلفيين زورا عندما يتم استخدامهم في أي معركة سياسية أو أمنية».
ويؤكد أن السلفيين كادوا يدفعون ثمن التضخيم الاعلامي لدورهم، داعيا الى الاستفادة من التجربة المريرة التي عاشوها، وعدم الدخول في تجربة مريرة جديدة، والسعي لاقفال الأبواب أمام أي تداعيات يمكن أن تنتقل من العراق الى لبنان.