قد يكون زعيم “التيار الوطني الحر” العماد ميشال عون عصبياً ومهجوساً بالوصول إلى رئاسة الجمهورية، وتبعاً لذلك عاجزاً عن أو رافضاً لإجراء تقويم دقيق لما يجري في لبنان والمنطقة والعالم وخصوصاً لمواقفه السياسية الخاصة والعامة. لكن ذلك على صحته لا يعني أبداً شكاً في ذكائه. فهو حاد الذكاء ومتابع دائم للأوضاع داخلاً وخارجاً. وانطلاقاً من ذلك، فإنه يعرف أن حليفه “حزب الله” سيتّخذ، عندما يرى أن مصلحته ومصلحة البلاد وربما مصالح حلفائه الاقليميين تقتضي ذلك، موقفاً داخلياً يبعد كأس الإقتتال المذهبي وربما الطائفي أيضاً. ولا بد أن يكون الموقف التوافق على رئيس للجمهورية اللبنانية بين فريقي 8 و14 آذار. والشعوب اللبنانية كلها تعرف أن عون ليس وفاقياً ولا توافقياً. هذه المعرفة المشار إليها دفعته إلى وضع خيارات أخرى تمنع وصول حليفه إلى الموقف المذكور أعلاه، وتبقي حظوظه في أن يصبح سيد قصر بعبدا قائمة. وأبرزها كان اقتراح إجراء انتخابات نيابية ضمن المهلة التي نص عليها الدستور وبدايتها لم تعد بعيدة، وإرجاء ملء الشغور الرئاسي وترك هذه المهمة للمجلس النيابي الجديد. وإذا كان “الجنرال” أعلن يوم الإثنين الماضي مبادرة “شاملة” جوهرها إجراء الانتخابات النيابية لأن الدنيا لن تخرب إذا تأخر انتخاب الرئيس، فإنه ألمح إليه أكثر من مرة في الأسابيع الماضية. كما أنه فاتح فيه حلفاءه وفي مقدمهم “حزب الله”. وبرَّر اقتراحه بمعطيات ومعلومات عنده تفيد أن انقسام المجلس النيابي نصفين، عاجز كل منهما عن تأمين النصاب وتالياً عن انتخاب رئيس يوافقه إلا بالتوافق، سيختفي فور صدور نتائج الإنتخابات النيابية. ذلك أن فريق 8 آذار الذي هو جزء منه، رغم محاولته التميّز عنه أحياناً بالقول إنه حليفه فقط، سوف يفوز بغالبية مريحة من نحو 65 نائباً أي نصف عدد أعضاء المجلس زائداً واحداً. ومن شأن ذلك تقوية موقفه الرئاسي كما موقع الحلفاء. إلاّ أن المعروفين في فريق 8 آذار بالحسابات الدقيقة وتالياً بالقدرة على ترجيح موقف أو اقتراح آخر كان رأيهم أن معطيات “الجنرال” ومعلوماته ليست دقيقة، وأن نتائج الإنتخابات النيابية وخصوصاً إذا كانت قبل الإنتخابات الرئاسية سوف تعيد إنتاج الانقسام الحالي داخل مجلس النواب وبالحجم نفسه وإن مع نائب بالزائد أو نائب بالناقص. والملفت أن رأي هؤلاء عموماً واستناداً إلى قريبين منهم كان أن حسابات “حليفهم” المسيحي لم تكن دقيقة أحياناً كثيرة.
هل يغيِّر الاقتراح المفصّل الذي قدمه “الجنرال” قبل ثلاثة أيام والشامل الانتخابات النيابية والانتخابات الرئاسية رأي حلفائه في دقة حساباته؟
العارفون والمطلعون والقريبون في وقت واحد يستبعدون ذلك. فهو يعتقد أن انتخاب الرئيس على مرحلتين، تقتصر الأولى على المسيحيين وتشمل الثانية اللبنانيين كلهم، وأن إحياء مشروع قانون “اللقاء الأرثوذكسي” للانتخابات النيابية الذي يحصر انتخاب النواب بالذين يماثلونهم من “الشعوب” في الدين لا بل في المذهب أيضاً، يعتقد أن ذلك كله سيعيده ممثلاً شبه وحيد للمسيحيين، وسيوصله إلى بعبدا إمّا بانتخابات رئاسية في مجلس النواب وإمّا بانتخابات “شعبية”. لكن هؤلاء لا يوافقونه الرأي. فالانتخاب الرئاسي على مرحلتين طائفية ووطنية يلزمه تعديل للدستور ليس محدوداً على الإطلاق كما يقول. ولا بد أن يفتح ذلك شهية الطوائف والمذاهب الأخرى على تعديلات جذرية أخرى. وما الحديث عن “المؤتمر التأسيسي” الذي تكاثر في الأسابيع الأخيرة إعلامياً وسياسياً وشعبياً إلا دليل على ذلك. وهذا أمر يخيف المسيحيين ولذلك يرفضونه. فهل سيبقون متمسكين بزعامة عون وتالياً برئاسته في حال كهذه؟ وهل يكفي أن يكون هو الزعيم وتالياً الرئيس كي يكون المسيحيون في خير في لبنان؟ وهل يصبحون في الويل إذا أخفق في تحقيق حلمه الرئاسي؟ وهل يحق لـ”الجنرال” أو لأي زعيم مسيحي آخر أن يستعمل القلق المسيحي المشروع لتحقيق أهدافه السياسية، وأن يدفع الدور المسيحي في البلاد إلى الزوال إذا أخفق في تحقيقها؟
طبعاً، لا ينطلق هذا الكلام من موقف سلبي “مُسبق” من “الجنرال”، بل من تحليل واقعي الهدف منه المحافظة على دور المسيحيين في لبنان على رغم ما لحقه من تقليص “بفضلهم” كما “بفضل” الآخرين وذلك من أجل الحؤول، إذا كان ذلك ممكناً، دون خسارة “شعوبه” كلها ليس الدور فقط بل الكيان. فالمنطقة انطلقت من التفجُّر إلى التفسُّخ، ودولها مهددة من أكبرها إلى اصغرها بتغييرات من داخلها وفي جغرافياتها. والعالم الفاعل حائر ماذا يفعل أو متواطئ أو عاجز.