تتزايد المخاوف من نشاط الحركات المتطرّفة التي تحاول دخول لبنان. ويتحدث البعض عن مخطط لتهجير مسيحيّي الشرق الاوسط بدءاً من سوريا والعراق شاملاً المنطقة العربية بكاملها ومن ضمنها لبنان. فيما البعض الآخر يرفض تطبيع المشروع بالطائفية أو بالتطهير العرقي والمذهبي، معتبراً أنّ المنظمات الأصولية تستهدف الجماعاتِ التي لا حمايةَ لها والتي تشكّل الحلقة الأضعف وتفتقر إلى الحماية الذاتية من جهة وحماية الدولة من جهة أخرى. أما آخرون فيرفضون الافصاح عن تكهّناتهم لأنّ الصورة غير واضحة في شأن مصير لبنان وهو في قلب منطقة مشتعلة يحضن بشكل غير منظّم لاجئين أجانب قد تكون بينهم حركات أصولية.
«لبنان مرَّ في مراحل تاريخية عنيفة عدّة، تعرّض خلالها الوجود المسيحي لخطر كبير»، يقول الباحث والمؤرّخ جو حتي. ولكنّ هذا لا يُقارَن بمخاوف المسيحيين اليومَ في ظلّ غزو «داعش» لهم وللمنطقة العربية.
ويرى أنّ «المرحلة الراهنة هي الأسهل»، مشيرا إلى أنّ «المسيحيين منتشرون بكثافة من مرجعيون إلى عكار ويتمتعون بقوّة اقتصادية وثقافية وأركان دينية متجذّرة، وهم على رغم الانقسامات السياسية، يتفقون في الجوهر ويتكاتفون لمواجهة أيّ خطر قد يهدّد وجودهم».
ويوضح حتي لـ«الجمهورية» أنّ «مشروع إقتلاع المسيحيين يعود إلى 1400 عام، بدأ مع الفقه الاسلامي الهادف إلى نشر الاسلام ويطاول الطوائف المسيحية واليهودية وغيرها، ونجم منه سقوط القبائل المسيحية في العراق ومصر وسوريا وفلسطين وهو مشروع لطالما شمل لبنان».
ويروي أيضاً أنّ «النصارى في جبال لبنان شكّلوا عبئاً على معاوية بن أبي سفيان الذي وضع خطّة من اليمن والشام لاستقطاب القبائل العربية لتطويق المسيحيين ونَشرها في طرابلس وجبيل وصيدا وفي سهل البقاع، حيث شنّ المسيحيون بدورهم هجوماً ضدّ الجيوش الاسلامية». ويضيف حتي «في ظلّ المخاطر الجمّة التي عاشها مسيحيو لبنان، ظلّوا متجذرين بأرضهم، متعلّقين بترابها، رافضين الرضوخ والتنازل».
ونحن ندرك أنّ التاريخ يعرض كلّ مرّة موجة جديدة من التعصّب التي أضعفتهم قليلاً وإنما أبقت على عزيمتهم، بدءاً من عهد العثمانيين والمماليك والعباسيين والخلفاء الراشدين وصولاً إلى العام 1975. وهنا يرى حتي أنّ «تنظيم «داعش» استطاع السيطرة على الأقليات في دول الشرق ولا سيما المسيحيين لأنّهم جماعات مدمّجة يهاجرون بلا تردّد، فيما مسيحيّو لبنان هم متمرّدون، يرفضون الذلّ والانتقاص من كرامتهم.
وأنّه على رغم الخطر، ليس على مسيحيّي لبنان التسلّح في هذه المرحلة الراهنة، لأنّ الدولة وجيشها يلعبان دوراً لا يمكن نكرانه، ولكن أيّ انتكاس وعودة الدّولة إلى ما كانت عليه عام 1975 حين كانت ركيكة ، فعندها لن يكون هناك من مانع العودة إلى زمن الميليشيات. ويعتبر حتي أنّ «التسلّح ليس الحلّ المثالي ولكن تراخي الدّولة وتكبيل الجيش عن الدفاع والتقاعس السياسي والعسكري سيدفع إلى حمل السلاح ضدّ أي منظمات متطرفة».
ويقول إنّ «الفراغ الرئاسي ليس صحيّا، وهو أخطر من «فوبيا داعش»، مضيفا أنّ «المسلمين في لبنان معتدلون ويريدون انتخاب الرئيس المسيحي ولكن المشكلة تكمن في الأطراف المسيحية التي تتصرّف بأنانية ونرجسية ووصولية، وهي صفات تقلّص من صلابة المسيحيين وقد تدفع إلى سقوطهم مثلما حصل في الدولة البيزنطية».
والحلّ إذا يكون بالتحصّن الداخلي خصوصا في ظلّ تعايشهم مع ذوي الفكر المعتدل لدى السنة والشيعة والدروز، لأنّ الحماية الاساسية تكون من الداخل، من دون أي محاولة لإقامة تحالف بين الاقليات المضرّ للوجود المسيحي. وفي هذا السياق يرفض حتي أي تحالف للمسيحيين مع نظامي الاسد والايراني لحماية أنفسهم من الاصوليين لأنّه ليس في الامكان محالفة طغاة أضعفوا المسيحيين في السابق.
لعبة تهدّد المسيحيين
على أنّ الأستاذ في العلوم السياسية الدكتور جورج شرف يرى أنّ «لعبة داعش لا تخيف مسيحيي لبنان، فهم يشكلون مكوّنا أساسيا للمجتمع اللبناني». ويعتبر أنّ «الانذار بالخوف الحقيقي يكون عندما تتحوّل اللعبة مخططا لتغيير الخرائط والأنظمة على المستوى الكبير».
ويقول شرف لـ«الجمهورية» إنّ «التحديات التي تواجه الوجود المسيحي ليست جديدة إذ سبق لهم أن تعرّضوا للأخطار وخرجوا سالمين على رغم الخسائر». ويؤكد أنّ «وجود المسيحيين في لبنان له ثقله الديموغرافي السياسي والعسكري ولا يشبهون المسيحيين في سوريا والعراق حيث سبق أن هاجروا بالآلاف مرارا».
علماً أنّ الفكر والخطاب السياسي، إضافة إلى الموقف الاسلامي في لبنان يرفض التطرّف والهمجية، وهذا الأمر ايجابي ويشكّل خطّ دفاع للمسيحيين. ويقول إنّ «أي هجوم محتمل للتكفيريين على لبنان سينتج عنه مواجهة مع الفكر المعتدل الذي يتقبّل الآخر ويعيش معه، لافتا إلى أنّ «هذا الأمر يختلف عن الوضع في العراق وسوريا حيث أنّ الجوّ الجماهيري متقبّل حالة التطرّف».
ولكن، نقطة الضعف لدى المسيحيين أنهم لا يتمتعون بالحصانة الداخلية لمواجهة الخطر. ويلاحظ أنّ «المسيحيين ليسوا موحدين، ويتلهون بمشكلات فيما بينهم بدلا من الوحدة، كما أنّ الفراغ الرئاسي يفاقم الوضع في ظلّ الهجوم الداعشي لأنّ المسلم الممثل برئيس الوزراء سيقف وحيدا لمواجهة الخطر».
وردا على سؤال عما إذا كان هناك من ضرورة للرجوع إلى الميليشيات لكي يحمي المسيحيون أنفسهم»، يقول شرف: «العودة في هذه المرحلة إلى الأمن الذاتي ليست مفيدة بل إنها تؤدي إلى تفكيك الأمن اللبناني والسياسي».
ويضيف أنّ «الامن الذاتي قد يشكّل عملية استدراج إلى مواجهات نعرف كيف تبدأ ولكن لا نعرف كيف تنتهي، ولهذا السبب الدولة هي الوحيدة التي تملك الامكان للمواجهة إلا في حال حصول فقدان للدعم الداخلي والاقليمي فعندها لن يتردّد أحد في الدفاع عن بيته وعائلته».
من جهته، عضو تكتل التغيير والاصلاح النائب فريد الخازن يقول لـ«الجمهورية» إنّ «لبنان كان على مدى 15 عاماً ساحة مشتعلة، وبات محيطه اليوم ساحات ملتهبة بالجماعات التكفيرية التي لا تفرّق بين مسيحي ومسلم. وهو البلد الوحيد في الوطن العربي الذي يتولّى رئاسته مسيحي، ويكون في الوقت نفسه القائد الأعلى للقوات المسلحة ولا يمكن تأليف أي حكومة من دون موافقته».
ويضيف: «يتميّز المجتمع المسيحي في لبنان بإرادته الصلبة مبرهنا أنّه الحلقة الاصعب على خلاف العراقي والسوري. كذلك استطاع «التعايش مع الطوائف الأخرى التي ترفض تحوّل لبنان أرض جهاد وفتنة».
ويؤكّد الخازن أنّ «الطوائف تريد السلام ولا تريد توغّل التنظيمات التكفيرية التي تغزو دول الشرق»، مشيرا إلى أنّ «تلك الجماعات تشكل خطرا حقيقيا وتهديدا للجميع، وتحاول الدخول عبر بوابة عرسال والبقاع». فداعش لا يستهدف طائفة واحدة، وهذا يؤكده ما حصل في العراق، حيث اسهدفت المسيحيين والايزيديين، الذين هم الأضعف».
ويرى الخازن أنّ «أي هجوم محتمل لن يطال المسيحيين فقط وإنما اللبنانيين جميعا الذين يعيشون في ظلّ نظام حكم متوازن»، مشددا على أنّ»التوازن المسيحي – الاسلامي، يدعمه موقف المجتمع الدولي الرافض ضرب الاستقرار وتحويل لبنان ساحة حرب». وهذا الأمر يستتبع الرفض القاطع للأمن الذاتي لأنه يعيدنا إلى زمن ثبت فيه أنّ الميليشيات لا تشكل سوى عملية انتحارية، فيما تبقى الدولة وجيشها الخلاص الوحيد ضدّ نار الارهاب».
لا تهديد فعليّا للبنان
على أنّ عضو كتلة «القوات اللبنانية» النائب أنطوان زهرا «لا يرى أي تهديد في الداخل اللبناني ولا تطويق أو استهداف لأي منطقة مسيحيّة حتى الآن»، ويقول: «لا وجود لداعش وما نراه هو فقط على الحدود للجماعات المسلّحة التي لم تستطع التوغل إلى الداخل».
ويضيف: «لا يمكن أن تكون هناك صلة وصل بين الخطر الداعشي وغياب رأس الدولة»، مشيرا إلى أنّ «الفراغ الرئاسي يشلّ الدولة التي هي الحامية الوحيدة للوطن».
ويؤكد أنّ «تخويف المسيحيين يجافي المنطق وكلّ الحقائق والوقائع البشرية بما فيها من تنوّع»، لافتا إلى أنّ «الهدف من التخويف هو إعادة التعويل على النظام السوري وتبييض صفحة إيران وحزب الله بأنهم الحامين الوحيدين للأقليات في حين أنّ الحماية الحقيقية تتمثّل بإرادة الشعب الصّلبة في المواجهة عند الخطر».
وهذا الأمر هو الذي يميّز الأقليات في لبنان عن دول الشرق، تلك الارادة في التفاف الشعب لمواجهة المخاطر محتميا بالدولة ومؤسساتها، بعيدا عن الأمن الذاتي الذي هو «أهمّ وصفة للاتجاه نحو الحرب، فحامل السلاح لن يتأخّر عن استعماله عند فقدانه لأعصابه». أما «الخطوات التي يجب اتخاذها لحماية الوجود المسيحي تكون ببناء الدولة العادلة، القادرة، المانعة والضامنة الوحيدة لمستقبل لبنان».
مواجهة «داعش» بالحدّ من الهجرة
في المحصّلة ثمة سؤال كان لا يزال مطروحا في زمن «الزحف الداعشي» وهو كيف يمكن صدّ هذا الزحف وما هي الخطوات الواجب اتخاذها لحماية المسيحيين من «داعش» وأخواتها.
على هذه التساؤلات يجيب حتي داعيا إلى وضع خطّة طوارئ استراتيجية وجدية من خلال إنشاء مكتب استراتيجي إقتصادي، مالي وتوجيهي للكنيسة لتلتفّ حولها أعدادا من المسيحيين لتدعمهم على كلّ المستويات المعيشية، بالإضافة إلى إنشاء مصانع ومؤسسات في المناطق البعيدة لتجذير الشباب المسيحي في قراه والحدّ من الفقر ووضع خطة اقتصادية للأرياف وإقناع المستثمرين المهاجرين الاغنياء بالاستثمار في هذه البلدات»، معتبراً أنّ «دعم القرى يشجع الشباب على الزواج ويخفف من وطأة الوضع الديموغرافي الذي يتمثل بزيادة الوفيات على الولادات في المناطق ما يشكل خطرا على المسيحيين أكثر من النزاع العسكري- السياسي.
هناك فرصة كبيرة لبقاء المسيحيين في لبنان من خلال التركيز على المواضيع التوجيهية والايمانية ومكافحة الهجرة القاتلة التي هي أفتك وأخطر من الاحتلال الفلسطيني والسوري والاسرائيلي وحتى «الداعشي».