IMLebanon

هل يمكن لـ«العنصر الداعشي» أن يتكلّم؟

 

يجري حالياً تقاذف المسؤولية حول من تسبّب في نموّ وتعاظم نموّ تنظيم «الدولة الاسلامية» الذي جاءنا، أخيراً، ببدعة اعلان خلافة قرشية جهادية، تحاكي التصورات الاسلاموفوبية حول الخلافة، اكثر مما تحاكي التصورات التأسيسية المختلفة في تاريخ الفقه السياسي والسياسة الشرعية ولو انه اقتدى بها شكلياً، او بالأحرى لفظياً.

في معرض هذا التقاذف، تتهافت أوهام من هنا وهناك. منها التوهم بأن «داعش» ذاتية التمويل، وتكفي ذاتها بذاتها، بدليل السيطرة على مناطق نفطية، في حين أنّ أي استبعاد للبحث الجدي في مصادر التمويل يجعل الكلام عبثياً وبلا فائدة، كما ان اي بحث في قنوات التمويل لا يستند الى سبر متكامل لمستويات ودهاليز الاقتصاد السياسي للجماعات الجهادية سيقودنا الى الابتذال.

أيضاً، يتسابق المتقاذفون لكيل التوصيفات المكررة لظاهرة ليس صحيحاً انا عهدنا مثلها سابقاً وبهذا الشكل والزخم، من دون أي اندفاع لرؤية كيف يعرّف هذا التنظيم عن نفسه. فأن تصف «داعش» بالفاشية فهذا لا يبدّل في الأمر كثيراً. ليس حال أميرها كحال مارين لوبين وحساباتها الانتخابية «كي يأخذ على خاطره»، وهو السفاح بافتخار، جراء هكذا توصيف. فهو بالأحرى توصيف لا يعنيه، بخلاف «حزب الله» مثلاً الذي «سيأخذ على خاطره» اذا وصفته بالفاشي، أو اذا قارنته بـ»داعش»، وكذلك النظام الدموي البعثي في سوريا لن يقبل وصفه بالفاشية بل هو يدلّع نفسه كنظام دستوري وليبرالي حالياً!

وفي معرض التقاذف المحموم، يجري اطلاق العنان للرغبات السهلة على حساب الوقائع المركبة. المكابرة مزدوجة: مكابرة على المعطيات الاهلية والاثنية، والمكابرة على معطيات الفشل الكيانيّ ان في العراق أو في سوريا. فهذا يكابر على ما يرزح تحته واقع كل بلد والاقليم ككل من نزاعات طائفية، وذاك يتناول الطوائف كما لو ان كلاً منها يشكّل فرداً له رأس وبدن ونفس واحدة. وعند بحث معطيات الفشل الكياني، تجد من يأخذ على الشعوب بأنها لم تحسن ارتداء ما خيّطه لها المستعمر من كيانات وطنية، وبين من ينقاد الى نظرية المؤامرة في شكلها الهزلي: اي انها مؤامرة دائمة ومفضوحة.

بعض التقاذف يتحوّل تذاكياً غبياً: كمثل تصوير الممانعين للمسألة بأن مقاومة داعش تقتضي مبايعة لتحالف ايران – نوري المالكي – النظام السوري – «حزب الله». وفي مقابل هذا التذاكي الغبي، نجد من يطلق العنان لسذاجة راضية بحالها: كأن يجري التعامل مع الانشطار الاثني المذهبي الخطير في العراق على انه بسبب الفشل الاداري لحكومة نوري المالكي في التعامل مع المسألة العربية السنية، وليس بسبب واقع مزدوج مع سقوط صدام: استبدال هيمنة مذهبية بأخرى، أقل دموية ومتمكنة بالانتخابات، انما نافرة بشكل صارخ لأنها لا تتوسّل أيديولوجيا انصهارية كالقومية العربية كما في أيام البعث.

واللافت ان من «يحتج» على داعش باسم قيم التنوير والكونية، لا يجد سياقاً كونياً لما يكابده العراق وسوريا: ان أي مقاربة «ثقافية» لموضوع «داعش» لا تدرجه في سياق كوني يتسم بأزمة القيم الحداثية الغربية للقرنين الماضيين، وبعودة الروح لنزعات عدمية غير قليلة في عالم اليوم، انما تعني استقالة المثقفين من دورهم في تقديم فهم للظاهرة غير المتداول في الدعاية السياسية.

ويبقى الجامع المشترك في كل هذا التقاذف: سوء طرح موضوع العلاقة بين الدين والعنف والمال والسياسة: فاما ان يجري اتهام التراث الديني بأنه المولّد لمظاهر الغلو والتطرّف، واما يجري تبسيط الموضوع كما لو انها مظاهر تهبط من فضاء خارجي وظرفي ليس الا. الاصلاح الديني في امر اليوم اكثر من اي وقت مضى، في مواجهة الظلاميين والمستبدين كما المستعمرين وورثتهم، لكن ذلك يستدعي التنبه الى معطى اول: الاف الذين يذهبون للقتال في صفوف القاعدة وداعش وحزب الله وعصائب اهل الحق ليسوا مجرّد روبوتات يسيّرهم امراؤهم عن بعد، او تسيّرهم المؤامرة الكونية، أو تسيّرهم البنى الانثروبولوجية والاجتماعية من دون ان يعلموا. انهم يفعلون ذلك من اجل قصدية ما، ويتحلون بجذرية ما، ويسوّغ كل لنفسه بماكيفيللية ما، ويحلم كلّ ليس فقط بجنّة في الآخرة، بل ايضاً بتصور عن هذه الدنيا، ان لم يكن لنفسه فلأخوته وذريته. فاذا كان سؤال الفيلسوفة الهندية المعاصرة غياثري سبيفاك «هل يمكن للتابع ان يتكلّم» لجاز طرح سؤال مشابه على كل هؤلاء الشباب الذين يَقتلون ويُقتَلون في العراق والشام. «هل يمكن للعنصر الجهادي أن يتكلّم؟»، وبالذات «هل يمكن للداعشي العنصر لا الأمير أن يتكلّم؟»، أي أن يتكلّم بغير ما نضعه على لسانه من كلامنا، أو بالأحرى مما نعتقد انه .. كلامنا؟