لأنّ فلسفة وجود الجيش اللبناني مربوطة بفلسفة وجود لبنان ذاته، ترسَّخ الإقتناع «تقليدياً»، إلى حدِّ التسليم، بإبقاء هذا الجيش الاقلّ تسلّحاً في المنطقة. فلبنان نفسه غير مأذون له أن يستقرّ. ولذلك تتناوب الجارتان، سوريا وإسرائيل، على التشنيع به، منذ خمسين عاماً، كلٌّ لغاية في نفسه.
هناك رومانسية يتعاطى بها اللبنانيون مع جيشهم، لا مثيل لها في دول أخرى. فالجندي ينادى شعبياً بتسمية «وطن». وهذه الرومانسية لا تعود جذورها إلى فخر الدين الثاني الكبير مؤسّس الجيش اللبناني في القرن السابع عشر فحسب، بل إلى الفكرة الأساسية لنشوء لبنان، أيْ إلى المقاومين الأوائل عبر الأجيال، في المغاور والجبال اللبنانية.
ولكن، في مقابل هذه الرومانسية، قلائل هي الشعوب التي تفرِّط بدور الجيش، كما هم اللبنانيون. ويجدر الإعتراف بأنّ كلاً من الفئات اللبنانية، منذ الإستقلال، ساهمت مداورةً، وفي نِسب مختلفة، في إضعاف الجيش أو إستثماره لمصالح خاصة.
في البدايات، كانت «المارونية السياسية» تعتبر الجيش ضمانتها للحفاظ على «لبنانها». فالجيش مثَّل دائماً للمسيحيين إستمراراً لفكرة الحماية التاريخية. ومع الإستقلال، بدا الجيش أقرب إلى أن يكون «جيش النظام» أحياناً. لكنّ طبيعة التنوّع والإعتدال اللبناني حالت دون تحولِّه نموذجاً عن الجيوش العربية الأخرى، التي كانت مجرد أدوات للبطش دفاعاً عن الأنظمة.
وفي آخر جولات «المَوْنة» المسيحية على الجيش، تصادم قائده العماد ميشال عون مع القوات المسيحية المسلّحة… فإنهزما معاً.
أما السنّية السياسية فإنتقمت، بالجيش، من المارونية السياسية. وفي السبعينات، دغدغ مشاعرها الوجود الفلسطيني المسلّح، وتعاطفت معه أحياناً على حساب الجيش الذي إتهمته بالفئوية.
أما اليوم، فالشيعة هم الذين يعتمدون برنامجهم الخاص، الرديف للجيش، أيْ المقاومة، فيما السنّة يتمسّكون بالأمن الشرعي. وفي عرسال، إختلط الحابل بالنابل: مَن يريد الجيش فعلاً؟ وفي القراءة المعمَّقة، لم يطالب أحد بالجيش القوي إلّا عندما وجد الفرصة لتجيير القوّة لمصلحته، او عندما دهم الخطر الامن والاستقرار.
والجيوش العربية تتلقى أعتى الأسلحة لا للدفاع عن الكيانات، بل الأنظمة. ولا تدافع الجيوش عن الكيانات إلّا عندما يكون مصير هذه الكيانات مرتبطاً بمصير الأنظمة، كما يحصل من حرب العراق 2003 وصولاً إلى دول «الربيع العربي».
فـ«العقائد القتالية» في الجيوش العربية هي العروش والأنظمة. ولأنّ لا نظام في لبنان، فلا مصلحة للمغامرين والمقامرين في دعم جيشه دعماً فعلياً يستحقّه. ومع إندلاع النزاع المذهبي، يرى المسيحيون والدروز أكثر من سواهم أنّ الجيش هو حمايتهم الوحيدة، لأنّ لا رديفَ لهم، لا داخلياً ولا إقليمياً يأملون في الإحتماء به.
ولطالما تقاطعت مصالح سوريا وإسرائيل على إبقاء لبنان ضعيفاً، كلّ لأهدافه. ومُنِع الجيش من التزوّد بأسلحة متطوّرة، سواء من الولايات المتحدة وحلفائها أو من روسيا، ومنها التزوُّد بمقاتلات «ميغ» يبدو وجودها اليوم حيويّاً للجيش في عرسال، حيث يقاتل الإرهابيين بالصدر العاري.
والتقاطع الإقليمي على إستضعاف الجيش هو جزءٌ من إستضعاف لبنان. فهو أتاح لإسرائيل هامشاً واسعاً في إستباحة لبنان براً وجواً وبحراً. أما سوريا، فإستباحت الشعب أيضاً. ووجد الجميع أنّ من مصلحتهم إبقاء لبنان صندوق بريد للرسائل الساخنة. والأبرز، كان القرار بإبقاء المخيمات الفلسطينية جزراً أمنية.
لذلك، وبعيداً من «العواطف المهترئة» التي يطلقها البعض بلا معنى أو للمزايدة، يحتاج الجيش إلى وقفة صلبة وصادقة وعملانية معه. ويبدأ ذلك بأن يكون «الأمر له»، من أقصى الحدود مع سوريا إلى أقصى الحدود مع إسرائيل، مروراً بالمحميات والدويلات والجزر اللبنانية والفلسطينية والسورية.
وهناك مصلحة في المصالحة اللبنانية حول الجيش، بدءاً من عرسال. ولا مصلحة لأيّ طرف في التعاطي الخبيث مع الجيش ودوره، لأنّ الخبث سينقلب عليه لاحقاً.
وربما تُمهِّد عرسال لدورٍ جديد للجيش، ينهي واقع «الإستضعاف التاريخي» الذي أُغرِقَ فيه، فيتوافق الجميع في الداخل والخارج على دور جديد له، يتناسب مع الواقع الذي يجري تحضيره للبنان وكيانه وتركيبته، بناءً على المتغيّرات الجذرية التي يشهدها الشرق الأوسط.