لم يكن لبنان يحتاج إلى زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري لتبيان الموقف الفعلي للولايات المتحدة الأميركية من التطورات والمستجدات، ذلك أنّ السفير الأميركي ديفيد هيل قد دأب على ترداد موقف بلاده الرسمي مع شيء من التفصيل خلال اللقاءات الكثيرة التي عقدها مع المسؤولين اللبنانيين.
إلّا أنّ زيارة كيري الى بيروت حملت في حدّ ذاتها دلالاتٍ واضحة. فزيارة رئيس الديبلوماسية الاميركية جاءت في عزّ انشغال واشنطن بالمفاوضات مع ايران، وفي ظل التعثر الذي يصيب المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية التي يرعاها كيري مباشرة، ووسط التطورات السورية المتلاحقة، وفي موازاة التواصل السعودي – الإيراني، فيما الترقب قائم لجهة التغييرات داخل السعودية.
في ظلّ كل ذلك، وجد كيري الوقت لهذه الزيارة ليقول إنّ واشنطن مهتمة بلبنان وإنّه لا يمكن مغافلتها في عز حشرة الملفات الدسمة المطروحة في الشرق الاوسط. وقد تضمّنت الزيارة كذلك تأكيداً على وجوب إنجاز الانتخابات الرئاسية قريباً. صحيحٌ أنها إشارة تفتقد للترجمة حتى الآن، إلّا أنّها تعني أنّ واشنطن تحضّر لمخارج ممكنة للمأزق الرئاسي عندما يحين التوقيت الإقليمي المساعد.
والأهمّ أنّ زيارة كيري تأتي لتعطي دعماً قوياً لحكومة الرئيس تمام سلام بما معناه أنّ الكلام الذي تردَّد همساً عن إمكان ضرب الحكومة من خلال استقالة عددٍ من الوزراء إنما هو خط احمر أميركي، ذلك أنّ واشنطن تدرك جيداً أنّ إسقاط الحكومة في ظل الشغور الرئاسي سيؤدي الى انهيار النظام السياسي اللبناني القائم تمهيداً لاستبداله بنظام آخر في توقيت لا تراه واشنطن ملائماً، وهي أيضاً تتمسك بالاستقرار الأمني في لبنان لحماية الاستقرار السياسي. ولهذا السبب بالذات تسعى الديبلوماسية الاميركية إلى إنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني قبل نهاية الصيف لأنها تدرك جيداً أنّ تجاوز هذه المهلة سيفتح الباب واسعاً امام الحديث عن مؤتمر تأسيسي جديد للبنان.
فهيل الذي ينشط في جولاته، يواصل مشاوراته حول الأسماء المطروحة، والأهمّ هو إيجاد الاسم الذي يشكّل قاسماً مشتركاً بين مختلف القوى وأن يحظى بأدنى مقدار ممكن من الاعتراضات.
في المقابل، إندفع العماد ميشال عون في معركته خطواتٍ جديدة الى الامام من خلال نقل الصورة الى الانتخابات النيابية على اساس أنّ الصناديق المسيحيّة، التي ستفرز الإسم الأقوى، ستُعطيه حكماً شرعية الدخول الى قصر بعبدا. وبدلاً من انتظار جوابٍ حاسمٍ من الرئيس سعد الحريري لجهة تأييد ترشيحه إلى الانتخابات الرئاسية، بات ينتظر جواب الحريري من إجراء الانتخابات النيابية.
خلال الاسبوع الاخير من المهلة الدستورية، وردت معلومات الى الرابية تفيد بأنّ الحريري يميل إلى منح عون بين سبعة الى ثمانية اصوات نيابية تحت شعار ترك حرية الاختيار لنوابه، أي ما يشبه خطوة النائب وليد جنبلاط عندما طرح «حزب الله» وصول الرئيس عمر كرامي الى رئاسة الحكومة عام 2011، يومها هرّب جنبلاط أصواتاً من درب كرامي الذي كان يحتاج لجميع أعضاء كتلته من خلال ترك حرية الاختيار، لترسو الأمور في النهاية على الرئيس نجيب ميقاتي.
لكنّ عون الذي وعد نفسه، وأعلن أنه سيحضر الجلسة الأخيرة في المهلة الدستورية فوجئ لاحقاً بـ»توضيح» يشير الى استمرار الاعتراض السعودي حتى على هذه الصيغة، بعدما اضطر رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع للسفر على عجل الى باريس.
وخلافاً لما هو ظاهر على سطح الاحداث، تنشط المشاورات بهدف إجراء الانتخابات النيابية. لذلك مثلاً سافر غطاس خوري للقاء الحريري الموجود في المغرب للبحث في سبل التعامل مع هذه الانتخابات. صحيح أنّ خوري هو أحد الناشطين على خط التواصل بين الحريري وعون، إلّا أنّ الأهم هو ما يأمله عون من تعاون انتخابي ممكن بين «المستقبل» و»التيار الوطني الحر» في بعض الدوائر الحساسة وعلى اساس التفاوض الذي حصل أخيراً بين الجانبين وأنتج مناخاتٍ متقاربة.
في المقابل، كان عون قد عقد اتفاقاً مع «حزب الله» يرتكز على دعم الحزب له في سعيه للوصول الى قصر بعبدا، لكن في حال انسداد الافق والوصول الى مرحلة المرشح البديل، فإنه سيشارك عون في اختيار الإسم.
ولأنّ عون يعتبر أنّ الانتخابات النيابية تشكل مرحلة في الطريق لوصوله الى قصر بعبدا، فإنه يراهن على موافقة «حزب الله». لكنّ حسابات حصول هذه الانتخابات قد لا تكون بالسهولة التي يتصوّرها البعض.
وفي انتظار جواب الحريري الذي يشبّع هذه الخطوة درساً وتمحيصاً، فإنّ المهلة القانونية للبدء بتنفيذ إجراءات الانتخابات النيابية في آب المقبل قد تتحوّل مهلةً ضاغطة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، مع الاشارة الى أنّ حزبَي «القوات» والكتائب، سيشاركان «التيار الوطني الحر» في رفض التمديد للمجلس النيابي مرةً ثانية في حال لم تسمح الظروف بإجراء الانتخابات النيابية، وذلك بعد الانعكاسات الشعبية السلبية التي عانيا منها إثر مشاركتهما في قرار التمديد الاول منذ سنة ونيّف.
وفي انتظار المحطات الخارجية العديدة التي تبدأ بلقاء الرئيسَين الاميركي والفرنسي على هامش احتفالات ذكرى النورماندي، يراهن الأطراف الداخليون على أنّ عون يدفع فاتورة الانتظار من رصيده الشعبي. فلمَ العجلة؟