IMLebanon

.. وانتخابات لم ينتخبْ فيها أحدٌ!

قد يُقال إن الانتخابات التي فاز بها السيسي في مصر بنسبة 96 في المئة (لقاء حوالى 3 في المئة للمرشح الآخر حمدين الصباحي، شابها ما شابها. وقد يُقال إن الانتخابات التونسية (بعد الربيع التونسي) شابها ما شابها. وقد يُقال إن الانتخابات التي جرت حتى في ليبيا واليمن شابَها ما شابَها. ربما هذا صحيح. لكن الصحيح ان كل هذه الانتخابات رئاسية كانت أم برلمانية قد حدثت فعلاً، وعَبرَّتْ فعلاً عن واقع ما، أو عن ظواهر، أو عن تعابير ما. انها انتخابات حدثت بالملموس والمحسوس وبالصورة وبالناس وبالأرقام وبالأصوات والصناديق، والمخالفات والمشاحنات. فالسيسي شكل (أياً تكن الملابسات) تسونامي شعبية عارمة في مصر، ساعدته على ذلك الظروف المتمثلة بسقوط الأخوان في الحكم وفشلهم المدوي، وما نتج عن ذلك من تراجع شعبيتهم، ومن ارتداد الناس عنهم، ولجوء هؤلاء الأخوان إلى العنف والسلاح، ناقضين بذلك روح الربيع المصري الذي تجلى في الميادين. ولا ننسى ان السيسي تلقى تأييداً من تظاهرة 30 يونيو التي عمت مصر بنحو 20 مليوناً أو أكثر. هذا المد الذي «فوّض» السيسي أخذ التفويض منه، لاسقاط حكم الأخوان… تمهيداً للترشح. وحمل حمدين الصباحي على أن يترشح أيضاً في مواجهة السيسي. فحمدين صباحي انطلق من ارثٍ ناصري طويل، ومن ارثٍ شعبي تجلى في منافسته الحادة لمرشح الأخوان محمد مرسي في الانتخابات الماضية وسقوطه بفارق ضئيل نسبياً. معنى ذلك أن الأحداث وتراجيدية تهاوي الأخوان حفرا لحيثية واضحة للسيسي والصباحي. أي ان هناك مرشَحَين «موجودين» طالعين من ربيع موجود، ومن ظروف موجودة. بمعنى آخر، كان هناك في مصر «فعلاً» انتخابات رئاسية، بين مرشحين «متناقضين» ومختلفين. فلم يخترع «السيسي» نفسه. ولا حمدين. ولم يخترع السيسي انتخابات وهمية، وصناديق وهمية، وأصواتاً وهمية (هذا على الرغم من عديد المآخذ كالتمديد ليوم ثالث!) وكذلك الصباحي. ومن اللافت أن يبادر هذا الأخير إلى تهنئة السيسي بفوزه، ليرد السيسي له «التحية» بشكره وتقدير موقفه. أي ان السيسي لم يرشح «حمديناً» كعكاز «ديموقراطي» ولم «يهبه» الـ3 في المئة ليبرّر الـ 96 في المئة. (مع الاشارة إلى ضعف الحضور الشبابي في الانتخابات). ولهذا، فمن المستغرب ان يقارن بعضهم الانتخابات الرئاسية المصرية بما جرى في سوريا… من مهزلة افرزت 88 في المئة لبشار الأسد مقابل 8 في المئة للمرشحين اللذين رشحهما الأسد نفسه، لايهام الناس بأن هناك تعددية ديموقراطية و«تنافسية» في هذه انتخابات لم ينتخب فيها أحدٌ أحداً. فانتخابات مصر الرئاسية وقعت فعلاً بكل شوائبها. وكذلك في تونس وليبيا (قبل الأحداث الأخيرة) واليمن… لكن لم تجرِ انتخابات في سوريا! انها انتخابات تشبه الانتاجات والإخراجات المسرحية والسينمائية: كل ما هو على مساحتها ديكورات منقولة، وكل أحداثها أحداث افتراضية. وكل «امتعتها» و«ملابسها» وأدواتها وحواراتها وأبطالها… مخترَعون! انتخابات لم ينتخب فيه أحدٌ. أصوات بلا ناس. صناديق معبأة سلفاً. وكأنها انتخابات بلا انتخابات. والانتخابات بلا انتخابات ليست جديدة في العالم العربي. لا في النظام البعثي العراقي السابق. ولا في النظام البعثي السوري السابق. ولا في نظام «جماهيرية» القذافي، ولا في عهد مبارك، ولا في عهد بن علي، أو علي صالح. هناك لا ينتخبون انفسهم فقط (99،99 في المئة: بالروح والدم) ولكنهم ينتخبون الشعب نفسه والسلطة والقوانين والضحايا. والسجون والسجناء والبرلمانات والوزارات. لا شيء! مع هذا كان على «الشعب» غير الموجود فعلاً في سوريا ان يكون جاهزاً للاحتفال باستفتاءات لا يُستفتى فيها أحدُ، وهذا «اللا أحد» ينجب 99، 99 ، وينجب شعباً لم يكن موجوداً، ولم يكن حاضراً، ولم يكن له أن يُصوِّت، او لا يُصوِّت. غياب الشعب يعني 99،99 منه. وغياب الشعب يفسر دوام ديكتاتورية هؤلاء، وجنونهم وفسادهم وطغيانهم وعندما حضر الشعب فعلاً في الربيع العربي.. غاب الطغاة! فقوة الدكتاتوريات تكمن في تهميش حضور الشعب، مِنْ جَعله «شاهد ما شافش حاجة»(على قول عادل إمام). فوقاحة الدكتاتوريات تأتي من خوف الشعب. وعندما زال خوف… زال الطغاة! على هذا الأساس يمكننا وبكثير من الأسف ان نرى قرصنة بعض الفئات الإرهابية والدينية المتطرفة لانجازات الربيع العربي، لكن في الوقت نفسه حققت بعض بلدان الربيع العربي (على الرغم من تحويل الظواهر السلمية الأساسية إلى حروب ونزاعات مذهبية وسلطوية) خطىً ديموقراطية أساسية. فلولا الربيع العربي ما وصل الأخوان إلى السلطة. ولولا الربيع العربي ما تدحرج الأخوان عن منصة السلطة ولولا الربيع العربي ما قامت تظاهرات يونيو. ولولا الربيع العربي ما تمت الانتخابات المصرية والتونسية. مثلاً: صار عندنا انتخابات ينتخب فيها الناس وصناديق مرئية. وأوراق شفافة ونتائج ونسب ومعارك وتنافس. وهذا ما لم نجده في سوريا، فالنظام شكل حرباً مضادة على ربيع سوريا. حوّل ارادة الملايين بالتغيير إلى حروب ومعارك ودمار وفتن مذهبية وتمّ استدراج ميليشيات مذهبية من لبنان (حزب الله) ومن العراق ومن الشيشان (أرسلهم نظام بوتين) ومن إيران… ومن بلدان أخرى. فالانتخايات في سوريا «وقعت» لأنها لم تقع. والصناديق وُضعت لكي لا تُملأ، لأنها كانت فائضة سلفاً. والتصويت لم يجر، لأن عملية الاقتراع كانت أشبه بالاختراع! اقتراع لم يقترع فيه أحد. اقتراع وهمي بلا ناس، وناس وهميون بلا اقتراع، بلا رادع. ولا مراقبة (ما عدا الوجود الايراني الروسي! رائع!) ولا شهود ولا من يشهدون. كأنما وانت ترافق سير «الانتخابات» في التلفزيونات.. لا ترى في الخلفية الأمامية سوى ظلال.. بلا ظلال. وأيدي بلا ايد. وأجساماً بلا أجسام. فالناخبون الحقيقيون لم يكونوا هناك. الغياب كان أعظم الناخبين. والحاضرون إلى مراكز الاقتراع كانوا الأكثر غياباً. الـ 88 في المئة التي نالها الرئيس الأسد هي أرقام الغائبين عن الانتخابات… وليس الذين حضروا. فقد تمّ التعويض عن هؤلاء الملايين النازحين والموتى والشهداء بناخبين غير موجودين. تم التعويض عنهم بأرقام نزوحهم. وكان لهؤلاء الذين قاموا بالثورة السلمية، وهُجروا من مدنهم ودساكرهم وبلدهم كله أن «يُصوّتهم» النظام له. وان يضع بؤسهم في الصناديق. وان يعبئ رفضهم له، بنتائج «باهرة»! ولهذا نقول ان من صوّتوا في سوريا صوّتوا بُدلاء عن ضائع غير الذين لم يصوّتوا . ربما تقمص هؤلاء أرواح 17 ألف طفل قضوا بالكلور والكيماوي والسكود والمدافع والبراميل المتفجرة. ربما تقمص هؤلاء الذين لم يصوتوا (عندما صوتوا) اسماء الملايين من النازحين (9 ملايين) في لبنان وفي الأردن وتركيا ومصر… ولا تسألوا أين أصوات هؤلاء الموتى والنازحين: انهم في الصناديق التي فاز بنتائجها بشار الأسد. ولا تسألوا عن بطاقات 200 ألف قتيل في سوريا: لأنكم ستجدونها بين البطاقات التي صوتت لبشار الأسد. ولا تسألوا حتى عن المعارضة البطلة في سوريا… والتي تواجه النظام بكل شراسة فهي ايضاً «ستصّب» أصواتها في صناديق الأسد. ولا تقفوا على اطلال سوريا التي دمرتها الطائرات والصواريخ…. فالأطلال ايضاَ صوتت لبشار الأسد. ولا تتبعوا أنهر الدم التي أهرقها النظام.. فهي سالت في فتحات الصناديق التي «انتصر» بها الأسد. ولا تسألوا اين كان حزب الله.. في هذه الانتخابات: فهو صوت فعلياً ومادياً للأسد. ولا تسألوا الحرس الثوري الإيراني، ولا الميليشيات الشيعية الآتية بأمر من المالكي، ولا تسألوا عن «داعش».. فهي كلها صبت للأسد. الصواريخ صوتت بدلاً من الناس. والطائرات والقذائف… فهي جزء من «شعبية» النظام. وجزء من قوته المعنوية وجزء من تفوقه وجزء من حكمه وجزء من قوانينه وجزء أساسي من عمليات الانتخابات… على امتداد خمسين عاماً من الحكم العائلي في سوريا! فالأشياء عند هؤلاء تحل محل الناس. والديكورات تحل محل المنازل. والعدم يحل محل الحياة. والسلالة تحل محل الشعوب والموتى يحلون محل الأحياء. والمقابر تحل محل المدن والقتل يحل محل الروح والسجون تحل محل المدارس والميادين وثقافة البدائل تحل محل ثقافة الأصائل. فلا شيء في مكانه، بل كل مكان يصير في مكان آخر. هذه هي المعادلة: الانتخابات الافتراضية تحل محل الانتخابات الحقيقية. واللا زمن يحل محل الزمن. اذ لا زمن عند الطغاة الذين يرفعون شعار «من الأبد إلى الأبد»!. أكبر من الزمن لأنهم خارجه وأكبر من المكان لأنهم دونه. وأكبر من الشعب لأنهم شيّأوه وأكبر من القوانين لأنهم خارجون عليها وأكبر من الدولة لأنهم احتلوها. فالانتخابات السورية ليست مهزلة بالنسبة إلى من يعترف بها فقط، بل بالنسبة إلى من نفذها. فهو يريدها مهزلة، لأنه يخاف منها اذا باتت جدية. والمهزلة بمعناها العميق هي في بعض وجوهها «تدميرية»: فالنظام «يهزّل» الانتخابات لأنه «يُهزل» نفسه. و«يهازل» الاقتراع لأنه يخترعه. كأن يهازل «اللاشيء!» فالمهزلة متبادلة وتصل إلى أوجها التراجيدي، عندما يبتسم «الرئيس» المنتصر وهو يعرف انه يبتسم «للمهزلة». مهزلته اولاً، خصوصاً، عندما تُصبح المهزلة «ضيقة» ووحيدة. وبلا جمهور. عندها عليه ان يخترع لها جمهوراً يصفق بالمهزلة للمهزلة، لكن حتى هذا الجمهور لا يصفق لأنه غير موجود، لا يصفق لأنه بلا يدين (وكيف تريدون ان يكون لجمهور غير موجود يدان يصفق بهما)، وكيف تريدون لجمهور المهزلة… أن يرى المهزلة، وهو كفيف! وهو بلا عينين.. المهزلة لا تأتي لأنها لا تذهب. وعندما لا يجد «المنتصر» (الافتراضي) ما يهزل به، ومن يرفع مستوى الكوميديا ينسحب إلى مرايا مكبّرة ومدبّبة تصنع من الواحد مليوناً، ومن المليون عشرين مليوناً! عندها يصبح المنتصر جزءاً من زجاج مرآته المكسور. جزءاً من الأشياء التي شيأها. انها قمة العزلة عندما «ينفضّ» عنه جمهور لم يأتِ، وعندما يستقبل جمهوراً لم يزره. عندها يزور الرئيس المنتصر نفسه. يقوم بزيارة «شعبية» لنفسه. يهنئ نفسه أمام مراياه… ويتكاثر لكن المرآة واحدة. ويبتسم لكن يكتشف أن شخصاً آخر يبتسم خلفه. ويمد يده لكن يكتشف ان شخصاً آخر هو الذي يمد يده! ويستدعي من يستدعي لكي تضبط قسماته، وتحفر ألوانه ويُضخم صوته. لكن ليس باللون وحده يحضر الانسان. ولا بالديكورات ولا بالماكياج. وعندما ننظر أبعد نجد ان المقاومة التي باتت مفترضة تصفق للرئيس المفترض . المقاومة (حزب الله) التي قتلت السوريين وقاتلتهم تصوّت للأسد بأصوات الذين قتلتهم. وعندما يغتبط بوتين بانتصار حليفه انما يغتبط فعلياً «بانتصاره» على الشعب الأوكراني وقبل ذلك على الشعب الجيورجي وعلى الشعب الشيشاني. انتصارات بوتين «المهزلة» فلماذا لا يصفق لمهزلة انتخابات صديقة: بوتين بالسلاح حقق نصراً مبيناً. وحليفه بالسلاح حقق نصراً مبيناً. وايران الملالي عندما تحتفل في شوارع بيروت وكانتونها الحزبي انما تحتفل بقمعها شعبها وفوزها على المعارضة والثورة الخضراء. اذاً مهزلة الدم تُحيّي مهزلة الدم. مهزلة القتل ترحب بمهزلة القتل. مهزلة تغييب الناس تهتف بمهزلة تغييب الناس وهذا شأن الدكتاتوريات النرجسية، الميغالومانية التي تتربع على عروش من ورق، ومن دماء ومن جماجم. وعندما قالت محطة «المنار» (الآرية الهوى) ان الاحتفالات عمّت بيروت وضواحيها تقصد ان الصناديق الفارغة والجمهور النازح والأطفال القتلى يجوبون الشوارع كأشباح تذكر بأشباح «ماكبت» و«الليدي مكبت» فكما ان الحزب اطلق النار على قصر بعبدا المهجور عبر شخص مهووس، (صار قديساً) ليستهدف الجمهورية اللبنانية نفسها، فهو اطلق النيران ابتهاجاً ليستهدف ملايين السوريين الذين رفضوا الانتخابات وهنا يصبح الابتهاج في مرتبة الارهاب. وهنا يأتي الرصاص في رتبة القاتل: قاتل في سوريا وقاتل في لبنان.هنا في لبنان يفرض الفراغ الرئاسي (بالسلاح) وبمنع الانتخاب وهناك في سوريا يفرض الفراغ الرئاسي بالانتخاب. حزب الله يدمر الشعب اللبناني بارادته ومجرياته. وهناك أي في سوريا يدمّر الحزب ارادة السوريين وحرياتهم! انها احتفالات بالموت. لأن الحياة في مكان آخر: حيث يصوّت الثوار والنازحون بأجسادهم وآلامهم وشهدائهم لمستقبل سوريا. هنا الحياة المقبلة وعندنا احتفالات بالموت . حزب ايران لا يحتفل بالموت لأنها ثقافته فقط بل لأن الحياة في مكان آخر: حيث يصوّت اللبنانيون والشهداء و14 آذار لمستقبل لبنان. حيث الصناديق تشبه وجوه الناس وحيث الأرقام أرقامهم وحيث النصر كالشمس يشرق في مستقبلهم عندما تتهاوى «انتخابات» لم تحصل ورئاسة لم تنتخب ونظام شرده الناس كما شردهم! وأخيراً: كيف يمكن أن يكون شخص ما رئيساً على شعبه، عندما لا ينتخبه أحد!