IMLebanon

وثيقة بكركي دستور مسيحي جديد بين المتابعة والتنفيذ

يُقال ان اللجان هي مقبرة المشاريع. لكن مع بكركي وسيدها لم تكن هذه المقولة صحيحة. فاللجنة التي كلفتّها بكركي لوضع مشروع وطني متكامل تحت اشرافها ورعايتها، انجزت عملها على أفضل ما يكون واصدرت مذكرة بكركي الوطنية في مرحلة مفصلية يقف فيها لبنان عند مفترق طرق اقليمي ويخضع لاختبارات قاسية. وهذه المذكرة التي جاءت في الوقت المناسب وبالمضمون المناسب تعد فعلاً وثيقة تاريخية ولذلك هي ليست محصورة بظرف ومرحلة ولا هي مفصّلة على قياس احزاب وزعامات…

ويُقال ايضاً ان الوثائق والمذكرات في لبنان تُوضع دائماً « على الرف» أو في جوارير النسيان والاهمال ولا تكون المذكرة أو الوثيقة إلا رقماً إضافياً بدل ان تشكل قيمة مضافة. ومع مذكرة بكركي لم تكن هذه المقولة ايضاً صحيحة، فالمذكرة تشق طريقها إلى صلب المعادلة وإلى أرض الواقع لتسهم في تصويب البوصلة الوطنية وتصحيح المسار السياسي. هذه المذكرة ليست « للتنظير» وانما وُضعت للتنفيذ، ولا يمكن تجاهلها. وانما لا بد من التفاعل معها إيجاباً والبناء عليها.

مذكرة بكركي مثل حجر كبير رُمي في مياه راكدة، فحركّها وأوجد فيها دوائر تكبر مع الوقت، ومثل كرة الثلج تتدحرج وتكبر حجماً وتزداد صلابة ومثل شجرة أزهرت ايذاناً بولادة ربيع بكركي والكنيسة، وهذه الشجرة ستثمر لا محالة ومن ثمارها تعرفونها.

مذكرة بكركي لم توضع جانباً ولم يكن مصيرها النسيان والاهمال حتى اليوم. وانما جرى تلقفها وملاقاتها من أول الطريق. ولم يقتصر الأمر على الأقوال ومواقف الترحيب بها والتهليل لها، وانما تجاوز ذلك إلى الافعال ومؤتمرات الدعم والمتابعة لتشكيل قوى ضاغطة وحالة دافعة باتجاه الافادة من هذه الوثيقة واستثمارها وتنفيذها وكي تكون مشروعاً وطنياً جامعاً للمسيحيين يتيح لهم رد اعتبارهم ودورهم.

أول وأبرز هذه التحركات لدعم هذه المذكرة أو الوثيقة الوطنية كان المؤتمر الذي عقد قبل ايام في فندق هيلتون-حبتور في سن الفيل بدعوة من الهيئة المدنية لدعم وثيقة بكركي، حيث كان مؤتمراً مميزاً في الشكل والمضمون واستثنائياً في مستواه وحجمه ان لجهة نوعية المشاركين والمحاضرين فيه وهم من نخبة المجتمع السياسي وأهل الفكر والاختصاص، أو لجهة المواضيع وحلقات البحث والمناقشة التي طالت المفاصل والمسائل الحساسة والساخنة واضعة النقاط على حروف الأزمة العميقة والأصبع على الجرح الوطني المفتوح.

لم يبقَ موضوع إلا وجرى التطرق إليه باسهاب من الديمقراطية الميثاقية إلى رئاسة الجمهورية ورسالة المسيحيين ودورهم في لبنان والمشرق، ومن تطوير دستور الطائف وقانون الانتخابات والمناصفة إلى حياد لبنان وقرار السلم والحرب وسلاح المقاومة، ومن دور لبنان في الأزمة السورية إلى موقفه من القضية الفلسطينية، ومن دور الشباب والمرأة في الحياة السياسية ومحاربة الفساد إلى لبنان الانتشار…

يومان من النقاش الذي أفضى إلى خلاصات ومقترحات وتوصيات تشكل مصدر غنى وتنوع وقوة دفع لعملية الحوار الوطني… دارت المناقشات في مناخ من الجدية والمسؤولية وبروح وطنية إيجابية وبناءة. وشارك فيها سياسيون ومفكرون من كل الطوائف والمناطق، وممثلون عن كل الاحزاب المسيحية واظبوا على متابعة اعمال المؤتمر من ألفه إلى يائه، كما تميّز المؤتمر بحضور ومواكبة ممثل بكركي وسيدها سيادة المطران سمير مظلوم الذي يستحق التقدير والثناء كون حضوره لم يكن حضوراً بروتوكولياً مقتصراً على جلسة الافتتاح وحسب وانما استمر ليومين كاملين واكب خلالها الأعمال بكل جدية وأضفى على المؤتمر أجواء دافئة مؤكداً ان بكركي تتعاطى مع المؤتمر بكل اهتمام وتشمله برعايتها ودعمها. وقد خلص المؤتمر إلى جملة توصيات وافكار ومقترحات خلاّقة وغير مسبوقة وتوج بعشاء تكريمي للذين شاركوا وساهموا في نجاحه. وكان هذا العشاء ذروة في المناخ الوطني الجامع برعاية وحضور رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان والبطريرك مار بشارة بطرس الراعي وحشد نوعي من الشخصيات ( 8 و 14 ومستقلون) لفت بينهم من ينتمي إلى الجيل السياسي الشاب الذي يتأهب لدخول المعترك مثل تيمور وليد جنبلاط وطوني سليمان فرنجية…

هذا المؤتمر ما كان ليُعقد، وهذا النجاح ما كان ليتحقق لولا جهود فريد هيكل الخازن الذي أخذ المبادرة لدعم مذكرة بكركي وتفعيلها، وهو من خطط ونظّم ونفّذ وأخذ المؤتمر على عاتقه ومسؤوليته. وفي الواقع فان كلمة حق تقال ان ما قام به هذا الرجل، ابن العائلة الكسروانية التي عهد إليها تاريخياً حراسة وحماية بكركي، تعجز عن مثله احزاب ومنظمات من حيث دقة التنظيم و « نخبوية» الحضور وسعة المسائل المطروحة، حجماً وعمقاً، ومنهجية النقاش، مداولات ومداخلات…

وبقدر ما يستدعي العمل الدؤوب والجهد الحثيث للهيئة المدنية لدعم وثيقة بكركي ورئيسها الثناء والتقدير والتهنئة، فانه يثير لدينا شعور الأسف والأسى لأن هذا الرجل قام بما كان يجب ان تقوم به القيادات والاحزاب المسيحية ولأن ما قام به كشف التقصير والتقاعس والاهمال لدى هذه القيادات السياسية التي لا تقدم لـ بكركي إلا الدعم الكلامي الاستهلاكي والدعائي وتعرض عن المبادرات والخطوات العملية، والتي تدعو إلى الالتفاف حول بكركي فيما هي لا تمارس إلا الالتفاف عليها، بعض هذه القيادات والأحزاب المنهمكة بمشاريعها ومصالحها الفئوية، المُنهكة بصراعات ومعارك عبثية الساعية إلى انتصارات وهمية بين بعضها وعلى بعضها، مقصّرة كثيراً في حق بكركي وفي حق الشعب الذي تُمثله ومحضها ثقته. بعض هذه القيادات والاحزاب أعلنت تأييدها لمذكرة بكركي ولكنه كان تأييداً بارداً وأقرب ما يكون إلى تسجيل موقف ومن باب رفع العتب، فيما المطلوب ان يكون التأييد عملياً يعكس التزاماً جدّياً وصادقاً، ومقروناً بمبادرات وخطوات عملية تؤكد على متابعة المذكرة وتنفيذها…

لطالما كان المسيحيون يفتقرون إلى « البرنامج الوطني والمشروع السياسي « الذي يوحد موقفهم ورؤيتهم وجهودهم ويلبي تطلعاتهم وطموحهم. ولطالما كان المسلمون في لبنان يعيّرون المسيحيين بأنهم لا يعرفون ماذا يريدون ولا كيف يحددون ما يريدون وكيف يصلون إليه… أما وقد اصبح للمسيحيين برنامج ومشروع وحددت مذكرة بكركي أي لبنان يريدون، ولأي دور ورسالة هم مؤتمنون، فلم يعد لقياداتهم واحزابهم عذر وحجة في أي تقاعس وتقصير، ولم يعد مسموحاً ولا مقبولاً الاستمرار والاستغراق في مشاعر الاحباط والعجز والاستسلام للواقع… والمطلوب بكل بساطة من الآن وصاعداً مواكبة مذكرة بكركي ومتابعتها والتبشير بها وجعلها ليس فقط عنواناً لمرحلة وانما مشروعاً ودستور حياة وممارسة للمسيحيين في لبنان يحوي مبادئهم الأساسية وثوابتهم الوطنية وقيمهم الحضارية والمجتمعية والاخلاقية…

واذا كانت مؤتمرات الدعم ضرورية ومفيدة لكنها تبقى الخطوة الأولى على طريق طويل من المبادرات والخطوات الهادفة إلى نقل مذكرة بكركي إلى حيّز التنفيذ والتطبيق عبر ترجمة بنودها إلى قوانين ووقائع ومشاريع، حتى لا تظل حبراً على ورق ومجرد أفكار جميلة وأحلام لا تتحقق.

لكن علينا ايضاً ان نعرف ان هذه الطريق مليئة بالاشواك والالغام وتتطلب الكثير من الثبات والصبر والتحمل والثقة بالنفس والايمان بقدسية القضية والرسالة، قضية المسيحيين ورسالة لبنان في هذه المنطقة من العالم.

وفي الختام لا بد لي من القول شكراً لبكركي، شكراً لغبطة أبينا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، شكراً للسادة الأساقفة الموارنة على هذه الوثيقة التاريخية والوطنية التي تأتي في هذا الزمن الصعب لتشكل مدخلاً آمناً لإيجاد الحلول لما نعيشه في هذه المرحلة الخطيرة والأزمة الراهنة بتعقيداتها وتداعياتها السياسية والأمنية والاجتماعية والأقتصادية.

كما أقول للمبادر والمتلقف والداعي إلى مؤتمر دعم وثيقة بكركي رئيس الهيئة المدنية الصديق فريد هيكل الخازن: يعطيك العافية …

* لأهمية هذا الحدث، قطعنا سلسلة « المرشحون الرئاسيون نقاط القوة والضعف» لهذا الاسبوع على ان تُستأنف الأسبوع القادم لأنه لدينا متسع من الوقت لنكتب عن الاستحقاق الرئاسي الذي سيطول شهوراً وشهور .