يحتار البطريرك الماروني كيف يُداوي «الفراغ الكبير» في «قصر الموارنة». وأيّ طريق يختار كي يصل الطاحونة الضائعة.
أيستدعي «المتهمين» ويُجلسهم على كرسي الاعتراف قبل أن يطلب منهم تلاوة فعل الندامة أمام مذبح البرلمان؟ أم يحمل العصا بوجههم تهديداً ووعيداً ليذهب بهم إلى حلبة المواجهة أمام صندوق الاقتراع.. حيث يفترض أن يكونوا؟ أم يُكتّف يديه بانتظار معجزة قد تسقط من سماء التفاهمات الإقليمية، وقد يطول انتظارها؟
من الواضح جداً أنّ رجل بكركي كاره للخيار الأخير، لا بل يميل إلى التصرف على نقيضه تماماً، حتى لو حاول مرة واثنتين وثلاثاً من دون نتيجة. واجبه يحتّم عليه أن يستنفر كلّ الاحتمالات والطرائق التي تساعده على محاربة الشغور، حتى لو انتكس وأحبط وتعثّر في خطواته. لا يرضيه إلا مشهد النواب مجتمعين ليسقطوا تلك القصاصات الصغيرة في الصندوقة الرئاسية.
صحيح أنّ الكاردينال يخشى من تداعيات الفراغ في الرئاسة المسيحية اليتيمة في الشرق العربي، ويبحث بين دفاتر الصرح العتيقة عن أي وصفة قد تعفي الموارنة من ضريبة الشغور الطويل الأمد.. إلا أنّ هذا الضرب المستمر على وتر إجراء الانتخابات الرئاسية في أسرع وقت ممكن، لا يأتي من جانب أهل الصرح فقط. حتى الفاتيكان منزعج من هذا المسار ويخاف من تطوره دراماتيكياً.
فالقاصد الرسولي يطالب الراعي صباحاً ومساءً في إثارة هذه المسألة لحضّ الموارنة على التحرك باتجاه ملء الكرسي الأولى كي لا يجتاحها الصدأ. وبهذا المعنى يكرّس الراعي كل جدول أعماله ونشاطاته في سبيل قضية واحدة: الرئاسة.
لجأ إلى خيار الطاولة المستديرة لجمع «فرسان الموارنة» تحت سقف بكركي، علّهم يتوحدون خلف «سيف» واحد. وإذ به يصطدم بجدار أكثر صلابة من سور الصين: لا مجال للتنازل حتى لو كان «مار مارون» في الصرح.
ثم استنفر «عسكره» المتمثلين بالمؤسسات المارونية، وتحديداً «المجلس العام الماروني» برئاسة وديع الخازن و«الرابطة المارونية» برئاسة سمير أبي اللمع و«المؤسسة المارونية للانتشار» برئاسة ميشال إده، ليقفوا على خاطر «كبار القادة» وليسمعوا منهم من جديد ما يدور في رؤوسهم. طبعاً لم تسرّ الخلاصة التي خرج بها «المساعدون» قلب «صاحب الغبطة»، لا بل زادته نقمة على الوضع، وخوفاً مما ستحمله الأيام المقبلة.
ومع ذلك لم يقفل وفد المؤسسات أبوابه ولا أذنيه أمام محاولات جديدة لا تزال تقاد خلف الأضواء بين المتخاصمين، لدفعهم باتجاه الاتفاق في ما بينهم. صحيح أنّ الأمل ضعيف، لا بل شبه مفقود، ولكن توجيهات الراعي تقضي بالبحث عن إبرة التوافق بين قشّة الخلافات.
ولهذا راح سيد الصرح يبحث عن درب جديدة قد تقود أحد أبناء رعيته إلى القصر. طالما أنّ اللقاء الموسع للأقطاب الأربعة لا يشفي الغليل، فلماذا لا يكون البحث محصوراً بالدرجة الأولى بين «رأسيْ الصراع»، أي ميشال عون وسمير جعجع؟ هكذا هناك مَن أقنعه أنه في حال نجح في جمع الرجلين على اتفاق مشترك، بمقدوره أن يوسّع الاتفاق على بقية الموارنة.
الأفكار المطروحة لهذا المخرج، لا تثير التفاؤل، ولكنّ للضرورة أحكامها. إذ سيطلب من «قطبيْ الاستحقاق» إما أن يتفقا على النزول سوية إلى مجلس النواب للتباري على حلبته بقفازيْ الأصوات النيابية، وليخرج الأقوى ويتوّج رئيساً. وإما أن يتفقا في ما بينهما على اسم ثالث ينقذ الجمهورية من براثن الفراغ.
طبعاً، لا حاجة لمن يقول للكاردينال الماروني أنّ بكركي لم تعد تحتمل أن تكون «شاهدة زور» على لقاءات غير مجدية، لا تبقى منها إلا الصورة، للأرشيف وليس للعبرة.
ولهذا من المستبعَد أن يستضيف الصرح أي قمة مارونية – مارونية، في حال لم تكن شبه ناضجة خلف أسوارها، حيث تترك اللسمات الأخيرة لصاحب الجبّة الحمراء كي يقدّم ثمارها إلى الرأي العام. ولهذا لا داعي للإفراط في التفاؤل.
إلى ذلك، يأخذ كُثر على الكاردينال الماروني عفويته الزائدة، ويسجلون عليه انحيازه إلى بعض الأسماء المتداولة للرئاسة. حتى أنّ جعجع تقصّد تصنيف بعض المرشحين في خانة «لائحة بكركي»، ضمن مبادرته وفي إطار استعداده للانسحاب من المعركة لمصلحة أحد «أبطال اللائحة»، مع أنّ هناك من يعتقد أنّ رئيس «القوات» لم يهدف من هذه «النقلة» إلا إحراق «اللائحة الأرجوانية»، على طريقة «عليّ وعلى أعدائي».
لا أحد ينفي أنّ للراعي بعض «المفضّلين»، ولكن هذا لا يعني أنّ الرجل سيتبنى رسمياً واحداً من هؤلاء، لا سيما إذا سئل من جانب جهة رسمية. وقد حصلت. إذ سأل الرئيس نبيه بري أحد المقربين من الراعي عن صحة ما يُشاع عن وجود «قائمة بطريركية» لها الأولوية، فكان الردّ واضحاً، ونقلاً عن لسان الراعي: «لا اسم يعلو على غيره».