اللقاءات التي شهدتها بكركي لقيادات مارونية ونواب وشخصيات، كان القصد من ورائها في بادىء الامر، تخفيف حدّة الخلافات القائمة بين العديد من هؤلاء، والوصول، اذا امكن، الى تنظيم التنوّع السياسي بينهم، بحيث يحتفظ المسيحيون بحيوية وصحة ودينامية التنوّع السياسي، من دون ان يخلقوا اجواء متوترة بين انصارهم ومحازبيهم، فيكونوا مثالاً للطوائف والمذاهب الاخرى، التي تعيش احادية حادّة في السياسة والاجتماع، واغلب الظن ان البطريرك بشارة الراعي كان وما يزال ربما، يمني النفس باستنساخ الحالة التي كانت سائدة بين الاحزاب والشخصيات المسيحية عموماً والمارونية خصوصاً، في اعوام الخمسينات والستينات، عندما كانت الاختلافات السياسية، تقف عند حدود معينة لا تتجاوزها الى حالة الخلافات الحادّة القائمة حالياً، ومن المفيد هنا ان اشير الى نموذج مما كان يحصل احياناً عند القيادات المارونية من مبادرات اخلاقية اصبحت، مع الاسف، نادرة الحصول في هذه الايام.
الجميع في لبنان، عاش الحالة السياسية ما بعد الاستقلال، او قرأ أو سمع عنها، ويعرف مدى التنافس الذي كان قائماً بين حزب الكتائب وحزب الكتلة الوطنية، ولكن هذا الواقع التنافسي الاختلافي، لم يمنع العميد الراحل المرحوم ريمون اده من التصريح، بعد تعرضّ المرحوم الشيخ بيار الجميل لحالة صدم خطيرة من احدى الشاحنات، ونقله بحالة الخطر الى المستشفى، انه بكى مرتين في حياته، الاولى عند وفاة والدته، والثانية عندما علم بحادث الجميل وخطورة وضعه.
هذا النبل في التعامل، مع الأسف، لم يعد موجوداً عند العديد من القيادات السياسية المسيحية، تاركاً الساحة للحقد، والكره، والاستغلال الرخيص لاي هفوة او خطأ يصدران عن الآخر، بقصد او بغير قصد، بل يبني عليهما سياسته. ويحتفظ بهما كنزا ثمينا يستفيد منه للايذاء والطعن في اي وقت يراه مناسبا.
***
اخر لقاء عقد في بكركي، قبل نهاية عهد الرئيس العماد ميشال سليمان، خرج بتوصيات وثوابت، وافق عليها القادة الاربعة الاقوياء، الرئيس امين الجميل، العماد ميشال عون، الدكتور سمير جعجع، النائب سليمان فرنجية، اهمها وقف الحملات الاعلامية والتجريح الشخصي بين الاربعة، تسهيل وتسريع انتخاب رئيس للجمهورية منهم على ان يتعهد بعدم محاربة الاخرين واقصائهم، بالاضافة الى بنود اخرى اقل اهمية، وحده النائب سليمان فرنجية، تحفظ على بند ضرورة تأمين النصاب القانوني بالحضور الدائم، معتبرا ان التغيّب حق من حقوقه، ولكنه التزم بالبنود الاخرى، ومارسها عمليا، بتشكيل لجان مشتركة بين تيار المردة وحزب القوات اللبنانية للتهدئة وتبريد الاجواء وعدم القيام بحملات اعلامية.
ان طي صفحات الماضي وتنقية الذاكرة وفتح ابواب التفاهم لا يمكن ان تكون انتقائية وفي الوقت ذاته ندّعي اننا وفاقيون.
الوفاق والاتفاق والتوافق والتفاهم كلمات واضحة تصبّ في تعريف واحد، هو قبول الاخر، والنائب فرنجية مع تمسكه بخطه واقتناعاته، قبل بسمير جعجع رئيسا بشرط ان يتم انتخابه ضمن الاطار الدستوري، وكذلك اعلن جعجع والجميل، فلماذا اذن استمرار هذه الحملات التي لن تؤدي الا الى شرذمة المسيحيين؟