IMLebanon

وقائع الانتصار.. من «أنظروا إليها إنها تحترق» إلى «يا أشرف الناس»

I ـ وجه آخر للبنان

في الخامس والعشرين من أيار 2000، انتهى زمن وبدأ آخر. للبنان، إرث مقاوم: فلسطين، لم تكن خارج حدوده. كانت من صلب تكوينه وانتمائه، لا ضفة من ضفاف العرب النائية. هوية شعبه الملتبسة في توحدها، واضحة التقاسيم في انقسامها. فلسطين تشطرها. نصفها (هذه الهوية) بسبب فلسطين، ونصفها الآخر، بسبب الاغتراب عن المحيط. يعوّض عن اغترابه، باعتراف ملتوٍ، بوجه عربي للبنان، بملامح حيادية.

وما بين الاثنين، قصة لبنان القديم، وحكايات لبنان الراهن. وبسبب هذا الانقسام، تعطلت الدولة وانعطب النظام وانكسر الوفاق، وليس بسبب المقاومة. بعد النكسة في حزيران 67 صارت فلسطين، لدى فريق لبناني منتم إلى بيئته وأمته، هوية وبندقية. فحمل البندقية إلى جانب الفدائيين، وخاض قتالا، قد يكون مراهقاً، أو غير محترف، لكنه كان صادقاً وناصعاً وجديراً بالبناء عليه. من العرقوب بدأ، أفواجه انتقلت إلى مخيمات اللجوء، التي أصبحت قلاعاً للثورة، وإلى شباب وطلاب الجامعات وأبناء القصبات والأحياء والقرى والمدن، حتى كادت بيروت تصير عاصمة فلسطين، بالمعنى المجازي، لا بالحيثية الكيانية. إذ لا بديل عن فلسطين، غير فلسطين.

في رصيد المقاومة الوطنية اللبنانية فصول من الانجازات ومراكمة الخبرات: طُرد الاسرائيلي من بيروت الغربية ثم تحرير الجبل، ثم صيدا والإقليم، وأُسقط اتفاق الإذعان (اتفاق 17 أيار)، وافتتحت بإطاحة الرأس اللبناني وحربة المشروع الصهيوني في الجمهورية، ومنصة عزل لبنان عن محيطه.

في الخامس والعشرين من أيار، استكملت المقاومة الإسلامية تحرير لبنان. اندحر الاسرائيلي وانتهى زمن الهزائم، وبدأ زمن الانتصارات، وتحقق مبدأ «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، والشعوب التي تسلّم نفسها للسلم تسلّم نفسها للعبودية». لم يحدث مثل هذا الانتصار في أمة راكمت من النكبات والمآسي ما تنوء به الجبال. كان انتصار المقاومة الإسلامية، بيّناً، لا لبس فيه ولا شك، بشهادة المعارك وشهادة الشهداء، والامتناع عن توظيف القوة المنتصرة بمواقع السلطة. ولقد كان ذلك في غير لبنان، ممكناً وحتميا، فالمنتصر على العدو، كما اعتدنا، تفرش له سجادة السلطة. هذا لم يحدث، ولم يكن مبتغى. فمستقبل المقاومة هو المقاومة والتحرير، وليس بيع الانتصار بالسياسة والرئاسة. ومع ذلك، فلقد وجد في لبنان من شكك ويشكك بالانتصار، ومن استعجل ويستعجل تغييبه، ومن يدعو إلى نزع السلاح… في تلك المرحلة، بعيد التحرير بأيام، انتهت حكاية الطعن بالظهر، وبدأ الإعلان، من ادعياء بناء الدولة، بأن وظيفة السلاح قد انتهت، فتعالوا إلى مائدة سواء نسبياً.

قيل: الحفاظ على الانتصار، أصعب من إنجاز الانتصار. لقد كان القول حقيقياً ودامغاً. فبعد خطاب السيد في بنت جبيل، واعتبار إسرائيل، «أوهن من خيوط العنكبوت»، التقى «أدعياء الدولة» مع أصوات دولية منحازة، تطالب بنزع سلاح المقاومة. ولم يتوقف ذلك الموّال حتى اللحظة.

في رصيد لبنان، برغم انقسامه العميق، تحرير ناصع غير مسبوق، وانتصار يبنى عليه، ويحمي من انقضاض الأعداء لحرفه واغراقه وتشتيته، تمهيداً لانهاكه. وبعدها، يعود لبنان إلى سيرته، سمساراً لغرب، ممراً لثروات، موئلا لفساد، بديموقراطية متواطئة مع طائفية، ذات ربحية صافية وسهلة.

في رصيد لبنان، ما ليس عند غيره، تاريخ جديد، بدأ بالتحرير، على أن صيانته، احتاجت إلى تجربة الصمود في تموز 2006. فكان تاريخ آخر.

II ـ تاريخ آخر للبنان

في التاسعة وخمس دقائق من 12 تموز 2006، بدأت عملية «الوعد الصادق». أطل السيد في مؤتمر صحافي وأعلن عن أسر جنديين إسرائيليين في عملية نوعية، وأكد أن الأسيرين لن يعودا إلى الديار إلا بوسيلة واحدة هي التفاوض غير المباشر والتبادل… ولن تستطيع إسرائيل وبظهرها العالم كله ان تستعيد هذين الأسيرين…

إذًا، بدأت المعركة. إسرائيل لن تفاوض والمقاومة لن تتنازل: الأسيران مقابل الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية.

كانت إسرائيل قد بدأت بالقصف. صعدت قصفاً وتدميراً وتهديداً. تبين أنها ستخوض حربا حاسمة. لن تكتفي برد فعل عسكري انتقامي. واضح انها ذاهبة إلى عملية كبيرة. حجم الدمار كان هائلاً. ذراع السلاح الجوي لم يتوقف عن إلقاء أطنان القنابل على القرى والبلدات والمناطق. الجسور انحنت. الجنون الإسرائيلي في أوج استراتيجيته: ضرب المقاومة، أهم من استعادة الأسيرين، يومان كانا كافيين للرد الحاسم. فعشية الرابع عشر من تموز، كانت المفاجأة التي أذهلت المشاهدين والعالم. ففيما كانت المعارك محتدمة قصفا وقصفا مضاداً، وآلة التدمير الإسرائيلية تحصد قرى وبلدات وضاحية، وتهجر عشرات الألوف، وفيما كان الخوف على المصير وعلى المقاومة قد تسرب إلى النفوس، لهول الدمار والقتل وحجم البربرية والتوحش، ظهر السيد كقائد ميدان، من خلف الكاميرا ليعلن «المفاجآت التي وعدتكم بها، سوف تبدأ الآن، فالآن، في عرض البحر، مقابل بيروت، البارجة الحربية العسكرية التي اعتدت على بنيتنا التحتية وعلى بيوت الناس وعلى المدنيين، انظروا إليها تحترق، وستغرق ومعها عشرات العسكريين الصهاينة، هذه البداية وحتى النهاية، كلام طويل وموعد».

وتبدد الخوف الذي راود قلوب المؤمنين والحالمين. استعاد الناس الثقة بأن الانتصار آت. فلدى المقاومة قائد، إذا قال قولاً، أصبح فعلاً. سمع العالم قوله ورأوا فعله. فما سيقوله في ما بعد، سيكون صادقاً، ترجمة للوعد الصادق.

ما بين «انظروا إليها انها تحترق» و«السلام عليكم يا أشرف الناس»، سؤال وحيد، يتصدّر قراءة حرب تموز: أهذا حقيقي أم أسطوري؟ والجواب: الإثنان. فلشدّة ما هو واقعي وملموس وفوق التوقع، هو أيضا من صنف الأساطير. أي فوق العادة. ويوميات الحرب، ميدانا وقيادة، تظهر صورة مقاومة صغيرة وقليلة، تنتصر على «إسرائيل»، الجيش المدجج والمسلّح و… الذي لا يقهر، وتهزم الإرادة الأميركية التي لا ترد. إسرائيل، ارتدت ولم تسترد الأسيرين، وكوندوليسا رايس، تيتمت بعد اندحار «شرق أوسطها الجديد».

يوميات الحرب تسجل ما يلي:

توأمان، المقاومون في الميدان والقائد الذي التزم صدق الوعد، فأنجزه. توأمان، واحد في الميدان، والسيد في انتظارات المقاتلين والمؤمنين، يقود معركة القرار والغمار والإطلالة على الناس، الخائفين على المصير والأرض ولبنان، أكثر من خوفهم على أنفسهم. كان السيد، إذا أطل من شاشة «المنار»، شارحاً، مفصلاً، منبهاً، متحدياً، يزرع الأمل بالانتصار. غيابه عن الظهور ولو لأيام، يستحضر شياطين الشك والقلق والخوف.

في سجل تلك اللحظات المديدة، خرائط المواجهة ولائحة بـ«الأمر لي»، أي ان الأمر للمقاومة، وليس لإسرائيل. نوع من الإملاء بلا استعلاء. (من يجرؤ على الإملاء على إسرائيل؟). قال: «مستعدون للمواجهة البرية، ومجاهدونا يعشقونها»، وحذر: «إسرائيل تجهل ما عندنا وتجهل إمكانياتنا». ولقد كان ذلك صحيحاً. ويمكن رسم الصورة الإسرائيلية بالكاريكاتور. كانت إسرائيل مصابة بالعمى، تماما كوزير دفاعها الذي كان يراقب سير المعارك بمنظار مقفل. لا يمكن نسيان هذا المشهد السوريالي.

في سجل تلك اللحظات: شعبٌ يُقْتَلُ، ويَرْفَعُ شارة النصر. الضاحية تُدَمَّرُ، وتَصْمُدُ. نجحت إسرائيل، بل تفوقت في قتل الاطفال والنساء والشيوخ. أهم انجازاتها العسكرية، مجزرة قانا وأخواتها. اخفاقاتها الميدانية، كانت كما قال السيد «كارثة على الجيش الإسرائيلي».

لم تستعمل المقاومة ترسانتها الصاروخية، إلا في حالات نادرة، قبل التحرير. عرفت إسرائيل كيف تتدحرج في خسائرها. السيد ينذرها بما بعد حيفا.

لم تكن المقاومة راغبة في حرب، ولكنها مستعدة لها. بدا ان إسرائيل تنفذ أمراً يخصها وأمراً لمصلحة حليفتها أميركا.

ففي الخامس والعشرين من تموز شرح السيد أسباب الحرب. «هناك عقبات أمام شرق أوسط جديد تسيطر عليه أميركا». في هذا الشرق، لا مكان لأي حركة مقاومة. الطريق إلى «الشرق الجديد» مسدودة، وفتحها يقتضي الاجهاز على المقاومة إما بالجيش أو بالفتنة أو… بالحرب الإسرائيلية. الحرب أبعد من استعادة الأسيرين.

في هذه الأثناء، كانت معركة مثلث مارون الرأس وبنت جبيل وعيترون قد اكتملت، ففرت قوات لواء غولاني، كالفئران.

الخوف إذا، ليس من الجبهة، بل من الداخل. إسرائيل تزيد من التدمير ومن معاناة اللبنانيين، بهدف توظيف المعاناة بالضغوط «اللبنانية» ليتحقق ما عجز عنه العسكر. نبه «السيد» بالكلام الطيب. أشار إلى مواقع الخطر على لبنان وليس على المقاومة وحدها. الضغوط السياسية والدولية والعربية، تحسمها قوة الميادين، وفي الميادين رجال من صنف الأساطير، لشدة ما هي واقعية ومنغرزة في الهوية والقضية… هناك، في الجنوب، يقرر الرجال مصير الوطن، لهؤلاء قال السيد: «أُقَبِّلُ رُؤُوسَكُم التي أَعْلَتْ كلَّ رأس، وأقبل أياديَكم القابضة على الزناد، وأقبل أقدامَكم المنغرسة في الأرض، فلا ترتجف ولا تزول من مقامها ولو زالت الجبال».

وفي الثالث من آب، يخاطب السيد الحكام العرب: «في الشرق الأوسط الجديد، لا مكان لكراسيكم، وليس معلومًا أن تبقى لكم أوطان، ودولكم ستقسمها خريطة الشرق الأوسط الجديد إلى كانتونات ودويلات طائفية ومذهبية»؛ وإلى إسرائيل، وجه إنذارًا، «إن قصفتم عاصمتنا فسنقصف عاصمتكم».

كان لدى القيادة وعي بمستلزمات الميدان ومتابعة المواجهات واستيعاب الثغرات وتسجيل الانتصارات. لعب القائد عماد مغنية الدور الاستراتيجي، في تحويل المعارك إلى قتال مزدوج، قتال عصابات ومقاومة ومواجهة جيوش. وادي الحُجَيْر يثبت ذلك، وتَوَقُّفُ الزحفِ البري شهادةٌ حاسمة. وإلى جانب ذلك، كانت القيادة متنبهة للساحة الداخلية وانقساماتها، فخاضت معركة «النقاط السبع» بديبلوماسية وصمود. رفضت ما لا يطاق، وقبلت بالحد الأدنى من اعادة التموضع. وكانت حذرة من انزلاق الدول العربية إلى تبني ما يضر بالمقاومة وبها. غير أن الانقسام الذي ظهر إبان التفاوض، طبع المرحلة كلها منذ تموز حتى اليوم، بالشكوك المتبادلة. كالانقسام الذي كان من قبل، استمر وتضاعف وبلغ حداً شبيها بالقطيعة.

أبرز ما أفضت إليه حرب تموز، هو حماية التحرير، وتأسيس لما بعد. وما بعد ليس دفاعًا عن، بل، كما يبدو، هو استراتيجية هجوم… باتجاه فلسطين.

في خطاب النصر قال السيد: «نصرُنا ليس انتصار حزب، ليس انتصار طائفة، ليس انتصار فئة. هو انتصار لبنان الحقيقي. لا تسجنوه في علب حزبية او مذهبية او طائفية او قطرية. هذا نصر كبير أكبر بكثير مما تطيقه عقولنا».

للأسف، الحرب على الانتصار في تموز، جعلت من المقاومة طائفة، ومن النصر عبئاً… كأننا غير جديرين بالانتصار.