لم يدلِ البطريرك نصرالله صفير بأي كلمة في أي مرة حول موقفه من الرئيس إميل لحود. لكن الواضح أن العلاقة بين الرجلين كانت في أقصى وأشدّ حالات التباعد. وإذ كبرت عزلة لحود بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وظهور حركة 14 آذار، دعت قوى كثيرة فيها إلى اجتياح قصر بعبدا وإخراج صاحبه. وقف نصرالله صفير ضد الدعوة بكل قواه: المسألة هي الرئاسة، لا الرئيس. لا تدمِّروا المزيد منها بتسجيل سابقة أخرى غير دستورية.
أُلحقت الرئاسة بالسيرك الانتخابي العربي، حيث يقترع المواطن كما في باقي الأمم، لكنه لا ينتخب مرة واحدة. يدخل إلى الغرفة السرية ويغطّ إصبعه بالحبر ثم تُلتقط له الصورة التذكارية رافعاً السبّابة المغمَّسة بعلامة الاختيار، وبعد ذلك تُعلن النتيجة بقراءة نتائج المعركة السابقة: يفوز عبدالعزيز بوتفليقة على كرسي متحرِّك في المحيط الهادر، ويفوز نوري المالكي على وجه متجمّد في الخليج الثائر.
وينزل الدبيكة إلى الشوارع: بالروح، بالدم. ذهَبَ الكاتب البريطاني غراهام غرين إلى ليبيريا في رحلة حول إفريقيا. لكن مروره في مونروفيا كان مختلفاً وسعيداً. ففيما كانت بقية القارة موزَّعة بين حَمَلة الرماح وتيجان القبائل، كانت ليبيريا تختار رئيسها في صناديق الاقتراع.
غير أن الانتخابات واجهت مشكلة بسيطة لم يتم التوقف عندها طويلاً: فاز الرئيس بستين ألف صوت، في حين أن عدد المقترعين المسجَّلين ستة آلاف. من الجزائر إلى اليمن ومن ليبيا إلى سوريا ومن مصر إلى العراق، أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة: الانتخابات.
لماذا الانتخابات؟ لأنها أصحّ وأدقّ تعبير عن المستويات الديموقراطية التي بلغناها، وأهمّ برهان عن التقدّم الاجتماعي الذي تفضي إليه الحريات الأساسية، كالتعبير والقول والاختيار. البعض يرى في الانتخابات ترَفاً لا ضرورة له، ناسياً أنه نتيجة طبيعية لمسعى الاكتمال الإنساني: فعندما يتحقق للإنسان هذا المستوى من الطمأنينة والرفاه والضمانات والحريات والتقدّم والتعليم والصحة والحرية، لا بدّ له من التعبير عن امتنانه: بالروح، بالدم، لا تكفي. يجب أن يُقتَرع لها أيضاً.
في مثل هذا الوقت من زمن طويل، أيار 1968، كنت في باريس أغطي لـ”النهار” ما عُرف يومها بـ”الثورة الطلابية”. باريس التي “لم تحترق” أيام الاحتلال النازي، شاهدتُ شوارعها تحترق وبلاط أرصفتها يُقلب وأشجارها تُقطع، عند حيّ المونبارناس وتقاطُع السان جيرمان، من حيث كانت تطلع أنوار الفكر الغربي.
كتب المتظاهرون لافتات كثيرة، كما يحدث عادة في مثل هذه الفورات والحِمم الفوضويَّة، لكن أعجبها بالنسبة إليّ كانت واحدة تقول: “ديغول: عشر سنين تكفي”! هل تقصدون شارل ديغول، صاحب نداء 19 حزيران الذي أنقذ فرنسا من ذلّ بيتان؟ صاحب الجمهورية الخامسة الذي وضع اقتصاد فرنسا للمرة الأولى أمام اقتصاد بريطانيا؟ الرجل الذي رفع الفرنك من العيب إلى عملة صعبة؟ الرئيس الذي دفع ديون فرنسا إلى أميركا قبل مواعيدها بزمن، لئلا يبقى في ذلّ الديون؟ نعم. هو من نقصد. “عشر سنين تكفي”.
كنّا نقيم في لندن عندما شَهدتُ بعد ذلك بريطانيا تقول لمارغريت تاتشر: 11 سنة تكفي. عودي إلى الريف. أو اذهبي في جولة حول العالم كما فعل تشرشل عندما أسقطناه غداة نصره في الحرب. لماذا أسقطناه حقاً؟ لأننا أردنا أن نبلِّغه رسالة مقتضبة وقاسية: حكمة الأوطان أن تبقى، وقَدَر الرجال أن يتغيَّروا. حزم أمجاده ومضى. وأما شارل ديغول، الذي وجد أمامه خليطاً من الوصوليين والرُعاع وذوي النيات الحسنة، فتأمّل المشهد في الحي اللاتيني وقرّر أن يذهب إلى كولومبيه. لن يترك فرنسا تحترق من أجله. أو بذريعته.
دخلَت تونس وليبيا واليمن ومصر وسوريا والعراق والصومال في متاهة الدماء والخراب والضياع الطويل، لأن رجلاً واحداً رأى أنه أهم من وطنه وأبقى من شعبه. كل المحنة التي دخلت فيها مصر كان يمكن أن تُتجنّب لو أصدر حسني مبارك بياناً مقتضباً من كلمتين: لا توريث.
لكن سوزان مبارك منعت حسني مبارك من إصدار البيان. الليدي ماكبث حاضرة في جميع العصور، وجوزفين تقول لبونابرت “أنت إمبراطور على الجماهير، أما هنا، فأنا الإمبراطورة”. المنافقون المتربّصون في الأروقة اكتشفوا السر ولم يعد في همومهم إرضاء نابوليون. الأسهل بكثير إرضاء جوزفين. الإمبراطورة تحب الترّهات، والحسناوات يغرهنَّ الثناءُ.
هل كان في إمكان صفية فركاش أن تُحد قليلاً من فظاعات معمر القذافي؟ أن تُقنعه، مثلاً، بأن يترك شيئاً من المال للبنك المركزي بدل توزيعه على أبنائه؟ أن يُقيم جيشاً للبلد بدل كتائب للعائلة؟ لأن ابنه قليل أدب بلا حدود؟
لم يستملك الحاكم العربي أرضه وشعبه فحسب، بل قرر أن يوسِّع مُلكه إلى حيث تطاول أمواله أو منجزاته. كان في إمكان عائشة القذافي أن تلعب دوراً ما في تدجين وضبط سلوك أبيها، لكنها لم تقُل له كلمة واحدة وهي تراه يرفُل في أثواب وقفاطين ملك ملوك إفريقيا وأحذيته العالية الكعوب.
كم أفكر في أحوال صفيّة فركاش وهي ترى أولادها في السجون المتوحّشة التي أقاموها. وكم فكّرت في عائشة، شبيهة كلوديا شيفر، وهي ترى الليبيين يمرّون بجثة والدها مسجّى على حصيرة في مسلخ لحوم. ألم يكن من الأفضل شيء من التواضع ومن العقل ونزر من الرحمة؟ هل كان من الضروري تعليق المشانق في حرَم الجامعة؟ أليس هناك من حدود بشرية للملازم الذي يصبح قائداً ثم إلَهاً؟
قبل نحو العقد ذهبت للسلام على الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في جناحه في أبو ظبي. كان متعَباً بوضوح. وكان زمن قد مضى على ذلك الفتى المرسِل الشعر على الطريقة الغيفارية الذي يُسحر سامعيه، بالعربية أو بالفرنسية. بل همسَ البعض يومها أن الرجل يرتاح لكي يتمكّن من إكمال رحلة العودة.
لا يقبل العربي قاعدة تغيُّر الأزمان. لا تعترف المرآة بأن الشَعر المرسَل أصبح شَعراً مُلصقا. نحن، المشاهدين، محكومون بأن نلاحظ ما يطرأ من جيل إلى جيل. لا تزال الجزائر عند جيل الثورة. ونحن هنا جيل يرث نفسه أو جيل يرث أسلافه، وجيل يهاجر إلى دبي، التي فاق عدد مسافري مطارها عدد مسافري المطارات الأربعة في هيثرو، فيما مطارنا لا يزال يعاني قرار “الجناح العسكري” في عشيرة آل مقداد. حاول وزير السياحة السابق معالجة الأمر بإقامة الدعوى على دول الخليج التي تمنع مواطنيها من السفر لكي يكون في استقبالهم الناطق الرسمي باسم “الجناح العسكري”.
العام الماضي، مثل هذا الوقت تماماً، دعاني الحبيب إدمون رزق إلى قلعته في جزين للاحتفال بميلاد مار نصرالله صفير. كانت تلك المرة الاولى ألتقي البطريرك الذي لم يسافر إلاَّ إلى حواضر بكركي، ولم يذهب إلى مقر سياسي سوى الرئاسة، ولم يلحق البابا إلى أي مكان لا تعترف به الدولة اللبنانية. لأن مجد لبنان لم يُعطَ له من الفاتيكان، بل من الروح التي يمثِّلها. وليس من الموارنة الذين يعيشون في إسرائيل أو البرازيل أو جبال قبرص، بل من الموارنة الذين يمنعون الهجرة ويبنون مشاريع البقاء ويحترمون الوعد الوطني وينظرون إلى الرئاسة على أنها خلاص الوطن، لا خُلاصة الشخص.
عندما كان يصعُب عليّ تلبية دعوات إدمون رزق بداعي السفر، كنت أعتذر مرة واحدة. هذه المرة رويت له من نيويورك، حكاية الكوميدي الزنجي ديك غريغوري، الذي قال بعد انتخاب جون كينيدي، إن السود في أميركا تمنّوا لو استطاعوا الاقتراع له عشر مرّات لأنه أول رئيس يمثِّلهم.
طلبت منه أن يعتذر لي من نصرالله صفير عشر مرات على الأقل. بعيدة نيويورك أيها الأب الفائق الاحترام، فعفوَك، وعفو تواضعك، وعفو شيبك الأبيض مثل أعالي صنين.
طلبت منه أن يعتذر لي عشر مرات على الأقل في تسعينات نصرالله صفير، تعويضاً للسنين التي لم نعرفه خلالها، كاهناً أعلى رعيته البسطاء والصادقون، فوحدهم يرثون ملكوت السماوات واحترام الأرض، كما جاء في الكتب.