شاءَ القدَر، على الأرجح، أن يزول أحد رموز الوصاية السورية على لبنان تزامُناً مع الذكرى العاشرة لزوالِها. ذهبَ رستم غزالي، وقبْلَه «رَساتِمُ» كثيرون. لكنّ أحداً لم يَعثُر بعدُ على الصندوق الأسوَد الذي يتضمَّن كلَّ الوقائع، ويحَدِّد جميعَ المسؤولين والمسؤوليّات!
لم تكن السنوات العشر، بلا وصاية سوريّة مباشَرة، أفضل بكثير من الثلاثين المباشَرة التي سبَقتها. وكان يُخشى، لولا انشغال النظام السوري بنفسِه منذ 4 سنوات، أن ينجحَ في استعادة جزء أكبر من الهيمنة على القرار اللبناني.
فبعد 26 نيسان 2005، مارسَ النظام على خصومه اللبنانيين ضغطاً مادّياً ومعنوياً عنيفاً أضعفَهم وأبعدَهم عن القرار. وعلى رغم ما يعانيه هذا النظام داخلياً، ما زالت له أوراقه اللبنانية. ويمكن القول، مع بعض المبالغة، إنّ قدرة الرئيس بشّار الأسد على الدفاع عن نظامه في لبنان أقوى من قدرته على الدفاع عنه في سوريا.
وفي المبدأ، عندما تنسحبُ جيوش الاحتلال من بلدٍ تحتلُّه، يبدأ هذا البَلد مسيرة تَحَرُّر اطِّرادية، فينفض عنه آثار الاحتلال تدريجاً، حتى يصبح نظيفاً تماماً. وأمّا لبنان، فلا يبدو في العام 2015 أكثرَ تحرُّراً من سوريا عمّا كان عند خروجِها في العام 2005.
إذاً، الخَلل في لبنان ليس سوريّاً، بل هو لبنانيّ في الدرجة الأولى. ولذلك، سيبقى لبنان، سنواتٍ وأجيالاً، باحثاً عن لُغزِ الكوارث التي تصيبه، بلا جواب، في معزل عن «الغيابات» أو «التغييبات» المبرمَجة لكلّ اللاعبين السوريين، وربّما اللبنانيين، بالنار السورية في لبنان… من غازي كنعان إلى رستم غزالي وما بينهما.
فالبَحث عن خفايا الاحتلال السوري للبنان يكون مجدِياً في لبنان لا في سوريا. وكذلك البحث عن خفايا أيّ احتلال آخر «مرَّ من هنا»، من العثمانيين إلى الفرنسيين فالفلسطينيين والإسرائيليين… وصولاً إلى السوريين.
عندما خرجَ جيش النظام السوري من لبنان، كان لبنانيون كثيرون يريدون عودتَه، وهم حاوَلوا ويحاولون القيامَ بالمستحيل من أجل ذلك. وعندما اندلعَت الحرب المذهبية في سوريا، انقسَم اللبنانيون وذهبوا إلى سوريا يتقاتلون مذهبياً.
واليوم، هناك لبنانيون كثيرون ينتظرون انتصارَ النظام ليعود إلى لبنان ساحقاً ماحقاً أعداءَه، فيما آخرون يريدون سقوطه وقيام نظام ينتقِم من أعدائه المذهبيين في لبنان. وبين بين، هناك مَن يتمنّى سقوط الكيان اللبناني تحت وطأة الملايين المتدفِّقة من السوريين إلى لبنان، ليسهل سقوط الحدود «التي أقامَها الاستعمار» في بلاد الشام. وإسرائيل مع الجميع في ما يقومون به. كُلُّه مفيد لها.
إنسحبَ السوريّون من لبنان، لكنّ اللبنانيين لم ينسحبوا من سوريا. لا سيكولوجياً فحسب، بل مادّياً أيضاً. وهم لم ينسحبوا أيضاً من العراق، ولا يريدون الانسحابَ من اليمن. ولولا الضوابط الدولية لاقتلعَت عواصف الخليج كلّ ما هو واقفٌ في لبنان.
قبل ذلك، الوصاية الفلسطينية كانت وجهة نظر، والاحتلال الإسرائيلي كذلك. والأنكى أنّ الاحتلال العثماني الذي ذبَح أحرار العرب… من الجزيرة العربية إلى سائر الهلال الخصيب، وعَلَّق نخبةَ المفكرين والمناضلين اللبنانيين والسوريين على أعواد المشانق، باتَ أيضاً وجهة نظر.
واستنتجَ البعض أنّ الحضارة العربية لم تكن مهدَّدة بالتتريك في عصر النهضة، بل بالتعريب. فخسِئ روّاد النهضة اللبنانيون. يا لَجريمتهم في حقّ الحضارتين العربية والإسلامية!
وفي موازاة التنكُّر لمليون ونصف المليون في الإبادة الأرمنية على أيدي العثمانيين، ومعهم مئات الآلاف من السريان والأشوريين والكلدان والأكراد، يَتنكّر بعض اللبنانيين اليوم لسقوط 200 ألف لبناني، من أصل 450 ألفاً هم أهل الجبل، أي نحو 45%، ماتوا تجويعاً في عملية تضييق مقصودة، يجب على المؤرّخين والخبَراء أن يقرِّروا إذا كانت إبادةً متعمَّدةً أم لا…
وإمعاناً، وفي الذكرى، يرفعون أعلامَ تركيا على الرؤوس التي قُدِّر لها أن تَسلَم من الإحتلالات المتعاقبة… بدءاً من الصليبي إلى التركي… وصولاً إلى السوري. ولعلّهم اليوم يقولون، بعد 100 عام: «شكراً تركيا»، كما قال آخرون قبل 10 أعوام: «شكراً سوريا»! فشكراً لهؤلاء جميعاً تقديرَهم الكريم إنجازات المحتلّين. وعلى المناضلين الحقيقيين أن يعتذروا لهم.
ويتشَدَّق البعض برفضِ الوصايات والاحتلالات والتغنّي بالكرامة الوطنية والقومية؟ فأيّ وحشٍ مذهبي هذا الذي ينهَش لبنان، فيما الكثيرون من أبنائه مستسلِمون للذّةِ الإرتواء بدماءٍ لا يدركون أنّها دماؤهم هم، لا دماء الآخرين!
وبعد، كيف يمكن الاحتفال بالذكرى العاشرة لخروج سوريا، إذا كانت لكلّ بيت لبناني إحتفالاته الخاصة. فالتهاني هنا تعازٍ هناك، والعكس صحيح.
إنّه بيتٌ بمنازل كثيرة، كما يقول كمال الصليبي. والمؤكّد أنّه بيتٌ واقفٌ على كرتون سيتبلّلُ وينهار، عاجلاً أم آجلاً.
إنّه هنا، في البيت اللبناني، الصندوقُ الأسوَدُ الحقيقي بكلّ محتوياته الفضائحية، فلا ينتظرَنَّ أحدٌ ظهورَه، لا في سوريا ولا سواها. وعلى اللبنانيين أن يبحثوا عنه ويفتحوه… ويفضَحوه، قبل الكارثة الكبرى!