IMLebanon

١٠ سنوات على استشهاد رفيق الحريري في قلب بيروت

١٠ سنوات على استشهاد رفيق الحريري في قلب بيروت

قصة المرافق ومشروع أمين الحافظ لوحدة المرافئ

وصفعة جعلت مغارة علي بابا تدر ذهباً !!

كان في لبنان جمهورية يقودها كبار، وأضحت تبحث عن كبار يقودونها من الانهيار الى الانتصار.

ولا أحد يعرف متى يعود الكبار الى مقصورة القيادة في بعبدا، ذلك أن القصر الجمهوري يكاد يقترب من الثلاثمئة يوم، والفراغ ينتابه ، والشغور يكاد يقتله.

من بشارة الخوري الى كميل شمعون، ومن فؤاد شهاب الى شارل حلو، ومن سليمان فرنجيه الى الياس سركيس مجموعة أسماء كبيرة، اكتملت تباعاً بالرئيس الشهيد بشير الجميل الى الرئيس أمين الجميل، وأضحت بعدها مقصورة القيادة في بعبدا، تقتصر على من تختارهم الوصاية، وحكم الأوصياء لا يكرس قيادة الأقوياء، الا في العناد حيناً، وفي المكابرة أحياناً.

من طرائف حكم الوصاية أنها فوجئت بولادة اتفاق الطائف، وأصبح دورها بعد اجتياح صدام حسين للكويت، تفريغ وثيقة الوفاق الوطني من محتوها، والبقاء في لبنان الى الأبد.

في العام ١٩٩٢، عرّج قيادي لبناني على عنجر وسأل العميد غازي كنعان عمن اختار من نواب في الانتخابات النيابية الآتية، ورد: هذا قرار متروك للبنانيين.

وعندما جرت الانتخابات الأولى، بعد عشرين سنة تقريباً، على أساس الشمال كله دائرة واحدة، دخل المرشحون قاعة الشاطئ الفضي في ميناء طرابلس، الا ان معظمهم لم يكونوا يعرفون بعضهم، لأنهم ليسوا من الطبقات السياسية المتعارف عليها. وعاد السياسي نفسه الى عنجر وسأل العميد غازي كنعان، عما اذا كانت سوريا ستبقى في لبنان الى الأبد، بالطبقة السياسية الجديدة، فرد: ان الوقت كفيل بجعلكم تتعودون عليها.

وتلبدت غمائم الأزمات، وصدر القرار الدولي رقم ١٥٥٩، الذي ينص على الانسحاب السوري من لبنان، وكانت دمشق ترفض مجرد البحث في الانكفاء الى من وراء ضهر البيدر. وكان اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في يوم عيد الحب في ١٤ شباط ٢٠٠٥ بداية الانهيار الطويل.

قبل قرابة العشر سنوات، رحل رجل معظم المراحل، وبقيت مرحلة واحدة غامضة، تحاول المحكمة الدولية الآن في لاهاي، جلاء الغموض حول ما يكتنفها من ملابسات وأسرار؟

هل أصبحت البلاد، في زمان الفراغ والشغور تبحث عن حلول لقضايا واكبت مراحل ما قبل الطائف، وعاصرت مراحل ما بعده وخلاله ومن أبرزها مشروع ردم الحوض الرابع أو الخامس في مرفأ بيروت، وحل أزمة المصروفين في كازينو لبنان.

لماذا تتفاقم أزمة الغذاء في لبنان، واصبح اللبنانيون يأكلون السموم بدل اللحوم، وعادوا الى اقرار مشروع قانون اعده الوزير الشهيد باسل فليحان قبل رحيله.

في حقبة الستينات نصح الصحافي الكبير محمود الادهمي الرئيس الشهيد رشيد كرامي، بأن يزين لائحته الانتخابية بشاب لامع في الصحافة اللبنانية هو الدكتور امين الحافظ الى جانب الدكتور هاشم الحسيني والسيد فؤاد البرط.

واجتذب الرئيس كرامي الكاتب الدكتور امين الحافظ الصحافي في جريدة الجريدة لصاحبها الوزير جورج نقاش صاحب الأوريان الناطقة بالللغة الفرنسية، الى الحياة النيابية، وأعد مشروعاً يقضي بتوحيد المرافئ اللبنانية، ولو طبقته الحكومات المتعاقبة كما يلزم، لما كان لبنان يخوض معاناة طائفية صعبة لحل ازمة الاحواض في مرفأ بيروت، الا ان الناس صاروا يشكرون الصحافي الرائد محمود الادهمي على حسن نصيحته بالدكتور امين الحافظ الذي اختاره الرئيس سليمان فرنجيه رئيساً للحكومة، بعد عزوف الرئيس صائب سلام عن تشكيل الحكومة لأسباب سياسية.

كان محمود الادهمي ليس صاحب صحيفة يومية في طراببلس، بل اصبحت جريدته الانشاء مدرسة للمواهب، وميداناً لمعالجة القضايا الطرابلسية، وأخذ الشهيد رشيد كرامي يتكئ على رؤاه السياسية في معالجة القضايا الطرابلسية، خصوصاً ساعة ينشغل في شؤون الحكم اللبناني وشجونه في عهدي فؤاد شهاب وشارل حلو.

في العام ١٩٧٠، بدأت معركة التغيير بصعوبة. انصبت الجهود على الرئيس فؤاد شهاب، ليقبل بالعودة ثانية الى الرئاسة الأولى.

الا ان فؤاد شهاب رفض العروض السياسية المنهمرة عليه من حل حدب وصوب، ورفض ايضا الانكفاء عن الساحة السياسية.

كان الشهابيون أو جبهة الاتحاد الوطني تريد شهابياً آخر للمعركة لكنه اختار شاباً للمعركة، لأن ما يطلبه الناس منه، قد لا يطلبونه من ابن سركيس.

وبتصميم على ذلك، رفض مطالب النهج باختيار شهابي آخر، وأحجم عن تأييد سليمان فرنجيه مرشح الوسط، وتجاهل اي احتمال آخر، لأنه كان يرى في الاستاذ الياس سركيس المدير العام للرئاسة سابقاً، والحاكم ل مصرف لبنان الوجه الذي يشبهه في النهج والحكم. وهكذا بدأت المعركة الرئاسية بصعوبة.

بداية، اختار النواب وزيراً ينتمي الى تكتل الوسط بزعامة كامل الاسعد وصائب سلام ويتعاطف مع العميد ريمون اده.

ادرك، يومئذٍ، الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل أن أياً منهما لن يصل الى الرئاسة بأصوات الحلف الثلاثي في وجه مرشح النهج الشهابي.

الا انهم فشتوا عمن يضمن اصوات تقودهم الى الفوز بالرئاسة الأولى، في وجه الرئيس الياس سركيس.

وهكذا، وقف النائب باخوس حكيم، داخل التكتل وهددهم بالانسحاب منه اذا لم يرشحوا الوزير فرنجيه وهكذا أيده تكتل الوسط وبدأ جولاته على زعماء الكتل.

واستطاع سليمان فرنجيه اجتذاب الرئيس شمعون الى جانبه، وكذلك العميد اده، وقسم الاستاذ كمال جنبلاط والشيخ بيار الجميل اصوات كتلتيهما مناصفة بين الاثنين، وجرت المعركة الرئاسية، وجلس الوزيران فرنجيه وفؤاد غصن الى جانب بعضهما بين الوزراء، وأيد نائب الكورة الوزير غصن فرنجيه، وأطلعه على ورقته، وحرر نفسه من القرار الشهابي، وجاءت النتيجة فوز وزير الاقتصاد ب ٥٠ صوتاً ضد ٤٩.

الا ان صبري حماده لم يعلن النتائج، بل اعلن نائبه ميشال ساسين فوز مرشح الوسط على المرشح الشهابي. الا ان الرئيس شارل حلو طلب من حماده اعلان النتيجة.

فريق العمل

اختار الرئيس الجديد رئيس بلدية زغرتا – اهدن رامز خازن وزيراً للاعلام وتسلم رئاسة البلدية نائبه ألفرد بولس المكاري، وطلب الرئيس حلو توزير المحامي خليل ابو حمد في حقيبة الخارجية.

وفي جوار قصر اهدن عقد الاستاذ طوني فرنجيه مؤتمراً صحافياً وهو محاط بالمحامي جوزيف عريجي والد وزير الثقافة ريمون عريجي والسيد اميل سعادة وفاجأ والده بترشيح نفسه لخلافته في المقعد النيابي الشاغر. واختار المدير العام لوزارة الاعلام الاداري الكبير قبلان انطون، لتعيينه رئيساً لمصلحة الديوان في الوزارة، ولكن بعد اخضاعه لدورة تدريبية في مجلس الخدمة المدنية وفقاً للأصول الادارية.

بقي امام الرئيس فرنجيه المنصب الأكثر دقة وأهمية وهو المدير العام لكازينو لبنان ورئيساً لمجلس الادارة فيه الاستاذ وجيه سعاده.

كان المدير الجديد، مديراً لمصرف عريق في طرابلس، وانتقل من بنك الاتحاد الوطني الى مرفق شهير كانوا يسمونه مغارة علي بابا.

ووجد وجيه سعاده جيشاً من الموظفين يقبض رواتبه ولا يعمل، ويحضر بعضهم آخر الشهر لقبض راتبه، من مؤسسة مترهلة، تنوء تحت اعباء الافلاس، وسط تهديدات الاقوياء والنافذين. واتصل ذات يوم، سليل عائلة كبيرة في كسروان، وأخبر المدير الجديد انه آت الى الكازينو ومن يستطيع منعه، فلينتظره على المدخل.

اصطحب المدير الزغرتاوي شاباً من زغرتا، ليرافقه الي مقر عمله. ولدى وصوله الى الكازينو في المعاملتين، اعترضه الكسرواني لكن الشاب الزغرتاوي اعترضه وفقعه كفاً، سمع رنته الجميع، فتربى الكسرواني وتراجع، وذاع صيت القبضاي الزغرتاوي بعد تلك الصفعة.

وبهذه العملية تراجعت الشفاعات، وأصبحت مذكرات صارمة بعدم الدفع لمن يقبض ولا يعمل، وأصبح القانون يكبح جماح القبضايات، وخفت نسبة الخسائر، وطاف اسم وجيه سعاده في اجواء الكازينو وخارجه.

بعد ذلك تفرغ وجيه سعاده لاجتماعات راح يعقدها مع عاصي ومنصور الرحباني، لاعداد مسرحيات غنائية في مسرح الكازينو، من بطولة الفنانة الكبيرة فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية.

كانت الخطوة التالية التواصل مع المرابع الفنية العالمية، واستقدام كبار النجوم في العالم، لتقديم مناهجها في صالة السفراء وسواها.

ولم يمض وقت طويل، حتى اصبحت مغارة علي بابا تدر ذهباً، بدل ان تنوء بالديون. وارتاح وجيه سعادة لا الى وجاهته، بل الى الارباح غير المعهودة في المرفق الذي يديره.

ويروي الاستاذ مروان اسكندر، وهو كاتب مرموق، قصة عمال كازينو لبنان، وكيف اقدم بعد العام ١٩٧٨، بموافقة مجلس الادارة، على شراء نسبة ٢٥ في المائة من أسهم كازينو مدريد لحساب كازينو لبنان التي تملك شركة انترا للاستثمار ٦٢ في المائة من أسهمه.

في ذلك الوقت، كان كازينو لبنان يتمتع بسيولة فائضة، تمكنه من الاستثمار في كازينو مدريد، والمبالغ التي الذي كان يحصل عليها كازينو لبنان في مجلس كازينو مدريد بلغت ٣ ملاين دولار.

وقد مثل كازينو لبنان في مجلس ادارة كازينو مدريد رئيسه وجيه سعاده والمحامي سبع قمر حتى العام ١٩٩٣.

والسؤال: لماذا تهاوى الانجاز، وعادت المغارة تستقبل الخسائر، بدلاً من الارباح؟

منذ اكثر من عشر سنوات، وضعت المغارة تحت اشراف المراجع العليا، ولماذا اصبحت مرتعاً للخسائر، ومن هو المسؤول عن الانهيارات المادية؟

لا شك ان في لبنان فساداً مستشرياً في معظم المرافق، وكأنّ المطلوب عملية انقاذية لا مجرد تسوية ادارية. هل كان المطلوب تأميم الناجحين ومحاسبة الفاشلين؟

وقائع ثابتة

ويقول جوزف أبو خليل في كتابه الشهير عمري عمر لبنان، قصة الميثاق الوطني اللبناني ميثاق ١٩٤٣ الذي بني عليه بنيان الاستقلال، من مضامين مختلفة باختلاف الأشخاص الذين يتحدثون عنه، إذ ليس من نصّ مكتوب عنوانه الميثاق الوطني يمكن الرجوع اليه عند الضرورة. هناك البيان الوزاري للحكومة الاستقلالية والتدابير الآيلة الى تحقيق الاستقلال أو ضمانات تغني المسيحيين عن طلب أي ضمانة، وحماية أجنبية لوجودهم وحرياتهم، وهذا ما أدركه رياض الصلح بطل الاستقلال، فشاع عنه قوله ان كل ما يطمئن المسيحيين يجب ان يُعطى لهم، يقينا منه انه متى تم ذلك، كان اسقاط الانقلاب في منتهى السهولة. كان ذلك حصيلة لقاءات حميمة بين بشارة الخوري ورياض الصلح، وبيار الجميّل، وثمة كلام لرياض الصلح في الرئيس اميل اده، نقله عنه الصحافي سعيد فريحه في بعض كتاباته عن تلك المرحلة يؤكد هذا التوجه.

ويقول سعيد فريحه انه ذهب الى رياض الصلح بعد اعلان نتائج الانتخابات النيابية، ليبحث معه موضوع نتائج الانتخابات علّه يكون مع ترشيح بشارة الخوري لا ضدّه، فكان جواب رياض الصلح ان المسألة متوقفة في الدرجة الأولى على استقلال البلاد وجلاء الفرنسيين، فاذا تمّ هذا وسيتم بإذن الله، لن يكون اميل لده أقلّ ايماناً بالعروبة من بشارة الخوري.

أما كيف سيكون ذلك، سئل رياض مرّة، فدفع الى سائله بجريدة العمل الناطقة باسم الكتائب يوم حملت في صفحتها الأولى ما يشبه اعلان الاستقلال من جانب واحد، من الجانب اللبناني صاحب المصلحة والشأن.

وتتوالى الأحداث على هذا النحو تقريبا، ما ان انتخب الشيخ بشارة الخوري رئيسا للجمهورية، حتى كلّف رياض الصلح تشكيل الحكومة، وما ان انقضت ايام حتى كانت هذه الحكومة تمثل أمام البرلمان وتدلي ببيانها الوزاري، وقد جاء بمثابة اعلان استقلال من جانب واحد، وكان ذلك يوم السابع من تشرين الثاني ١٩٤٣.

وتروح الحكومة تنفذ بيانها الوزاري وبحسب رواية سعيد فريحه في مجلة الصيّاد ان النواب تطوعوا لاخفاء المحضر المذكور، فدخل كنيسة الكبوشيين الكائنة في محلة باب ادريس، ووضع المحضر في مكان خفي هناك، ريثما يزول الخطر.

ولعل في هذا الطار إيضا، كان قدوم تقي الدين الصلح الى منزل رئيس الكتائب فجر الحادي عشر من تشرين الثاني ليخطره بأمر ربما، كان متوقعاً مثله، ولكن ليس الى حدّ اعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. وقد كان المطلوب أن يكون الرد على هذا التحدّي مسيحيا واسلاميا، لا اسلاميا فقط. أقلّه الدعوة الى اضراب عام تكون فيه أحياء الجميزة مثل احياء البسطا استجابة لها، وإلاّ قيل ان المسيحيين غير موافقين على اقصاء فرنسا على هذا النحو، ذلك كان الدور المطلوب أيضا لمواجهة الأم الحنون فرنسا، في لحظة كان الرئيس اميل اده ومن معه، من أركان الكتلة الوطنية في تحفظ لافت من هذا القبيل.

لقد استجابت الأحياء المسيحية من العاصمة، فكان الاضراب كاملاً. حاول أحد عملاء السلطة كسر هذا الاضراب في محلّة الجميزة بالترهيب أو بالترغيب أو بالاثنين معاً، وكاد يفلح، عندما فوجئ بقدوم الشيخ بيار الجميّل وتصدّيه له.

صحيح ان الأجواء تكهربت لكن العملية تقلّصت وعمّت التظاهرة شوارع بيروت لتنطلق الى الشارع المؤدي الى بيت رياض الصلح في شارع عبدالكريم الخليل.

وتواصلت التظاهرات على مدى أحد عشر يوماً، كانت أشبه بأعراس لولا ما تخللها من غوغائية تعكّر نقاء المناخات الوطنية.

وسرت اشاعات تتحدث عن اعتقال بشاره الخوري، وتسليم السلطة الى اميل اده مكانه، لكنه شعار كان مستهجناً،

إلاّ أن رياض الصلح كان يحارب هذه الشائعة لأنه يدرك ان الرئيس اميل اده ذو خصوصية لبنانية، غير متأثرة بالخصومة بين الزعيمين بشارة الخوري المعتقل فرنسيا واميل اده، وموضوعها منصب رئاسة الدولة أو رئاسة الجمهورية، وكان موقف رياض الصلح منه، موقف الدستوريين، فلا بشارة الخوري هو من المتواطئين ولا اميل اده من المتواطئين مع الفرنسيين. إلاّ أن الخصومة الشخصية هي التي تسبّبت في حساسيات وأحقاد وردّات فعل تعمي البصائر أحياناً.

ويقول جوزف أبو خليل ان بيار الجميّل روى قصة ما وصلت اليه الخصومة بين الرئيسين الخوري واده، فقال:

أول عمل قام به اميل لده بعد اعتقال بشارة الخوري وتعيينه رئيسا للحكومة، هو الأمر باقتلاع كشك الحراسة الموضوع على مدخل قصر القنطاري، أو القصر الجمهوري الكائن في محلّة القنطاري، للدلالة على أن الرئاسة كفّت عن أن تكون هناك، أو أن القصر قصر خاص لا القصر الجمهوري، وأن المقيم فيه شخص عادي ليس رئيساً للجمهورية.

ويضيف الشيخ بيار قائلاً: بعد الافراج عن أركان الدولة وعودة الأمور الى نصابها، وعودة الشيخ بشارة بالذات الى قصر القنطاري مع كل الأبهة التي يستحقها، جاء من يخبرني أن إيعازاً قد صدر عن جهة رسمية باسترداد السيارة التي كانت موضوعة تحت تصرّف عقيلة الرئيس اميل اده بصفتها رئيسة لمؤسسة الأعمال الحرفية اللبنانية، من قبيل الثأر والانتقام، فطلبت على الفور مقابلة الرئيس بشارة الخوري لهذا الغرض. ولما استقبلني أفاض في الترحيب بشخصي وفي الاشادة بالدور الذي كان للكتائب في أيام تشرين. ولكن ما ان أطلعته على الأمر الذي من أجله طلبت مقابلته، بل ما ان ذكرت اسم السيدة اده حتى ثارت ثائرته وانتصب واقفاً كما لو أن سلكاً كهربائياً مسّه، واصفا الرئيس اده وكل من انتسب اليه بأبشع الأوصاف، لينتهي بالاعتذار عن عدم الاستجابة لمطلبي، وان كانت مطالبي عزيزة على قلبه كما قال.

المهم ان الانتفاضة اللبنانية، انتفاضة العام ١٩٤٣، مدعومة بتدخل عربي ودولي، أرغمت حكومة فرنسا الحرّة على تسوية الأمر بإلغاء كل القرارات والتدابير التي كان قد اتخذها مندوبها السامي في لبنان وسوريا، هيللو، من تعليق الدستور، الى حل مجلس النواب، الى اسقاط السلطة الشرعية باعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وبعض الوزراء والنواب، وتعيين اميل اده رئيساً للحكومة الموقتة. وأوفدت الحكومة الفرنسية مجدداً الجنرال كاترو في محاولة لانقاذ ما يمكن انقاذه من علاقة لفرنسا بدول المشرق، وبخاصة لبنان.

وخلص الى القول:

تنتهي معركة الاستقلال بقيام دولة الاستقلال المنبثقة عن الميثاق الوطني بشقّيه المكتوب في البيان الوزاري للحكومة الاستقلالية الأولى، وغير المكتوب أو المتوافق عليه، بين الذين انخرطوا في المعركة وخاضوا غمارها.

في ما يتعلق بالاستقلال عن فرنسا، لم يكن الأمر ليتطلب أكثر من عملية تسلّم وتسليم على مستوى السلطات، كما على مستوى المؤسسات والادارات العامة التي كان يديرها الفرنسيون. وكان من المتفق عليه أيضا أن يتمّ الجلاء الكامل للجيوش الأجنبية، والفرنسية خصوصا، حينما تضع الحرب أوزارها. وراحت الاعترافات الدولية بلبنان السيد المستقل تتوالى، وصار لكل دولة تقريبا سفيرها المعتمد عندنا أو بعثتها الدبلوماسية، مع ما يعني الأمر من مشاهد ومراسم احتفالية تضع بلدنا الصغير في مستوى الدول الكبرى والعظمى. وهذا ما لم نكن نعرفه من قبل ولا نعرف أمجاده ومشاعر العزّ المواكبة له.

ولكن يا ويل شعب – كما يقال – يظنّ ان الاستقلال محطة نهائية أو استراحة أو خاتمة لطريق وتاريخ أو هو أعراس وخيرات تدفق على الناس في صورة تلقائية. فالى أي مدى كنّا أهلاً لهذا الاستقلال، وبأي مقدار ستظل الظروف الاقليمية والدولية ملائمة له، ومثلها الظروف الداخلية المتمثلة في التوازن الذي قام عليه الميثاق الوطني أو كان الميثاق الوطني منشأه والأرضية التي يستوي عليها؟

وكثيرة كانت الاستحقاقات المترتبة على الاستقلال، لعلّ أهمها وأكثرها خطورة مشروع دولة اسرائيل الذي لم يحسب له حساب إلاّ في كتابات ميشال شيحا وبعض المفكرين والأكاديميين المتتبعين لمسار البنية التحتية للدولة العبرية العتيدة.

وهذا ما ستكشفه الأيام اللاحقة وتبيّن قصورنا كشعب وقيادات سواء كان على مستوى الاهتمام بالأحداث الاقليمية والدولية أو على مستوى المعرفة والخبرة في اللعبة الدولية. ليس فقط لأن الاعلام كان في حدود ما كانت تتيحه وسائله في ذلك الحين، بل أيضا وخصوصا لأن كل ما هو متصل بالشؤون الخارجية ومسائل الحرب والسلم كان من شأن الدولة المنتدبة ان تقرّر فيه بالنيابة عنّا، بما فيه علاقة بلدنا بسائر البلدان ومصالحه في الخارج على كل المستويات. وهذه طبعاً حال كل بلد ينتقل من التبعية الى الاستقلال من دون ان تمهله الظروف، وتفسح له في المجال ليحصّن نفسه للاستحقاقات الكبيرة. لكن أكثرها خطراً هو الظنّ بأن الاستقلال هو الارتباط بالمحيط.

الوجه العربي للبنان

كان أقصى ما يمكن التوافق عليه بالنسبة الى علاقة لبنان بمحيطه العربي والاسلامي هو الوجه العربي لهذا البلد، مع التأكيد على الاستقلال الكامل عن الشرق والغرب، أو الاستقلال عن الشرق بقدر الاستقلال عن الغرب وأكثر. ففي تصوّر المسيحيين عهد ذاك ان الغرب بعيد هو، وبخاصة بعد التزامهم ألاّ يتسببوا في ان يكون لبنان ممراً أو مستقراً. فيبقى على المسلمين أن يكتفوا بعروبة في الوجه من لبنان مع أقصى التعاون مع البلدان العربية… أي بأقصى ما يسمح به الاستقلال الكامل عن الشرق.

وتبيّن لاحقاً ان تصريح الأمير عبدالله يتلاقى مع مضمون مذكرة بهذا المعنى قدمها نوري السعيد باسم العراق الى الحكومة البريطانية تقول: إن الحل العادل الذي يرجى منه سلم وهدوء مستقر وتقدّم مستمر ونجاح مضطرد في مختلف البلدان العربية هو أن تعلن الأمم المتحدة في الحال ما يلي:

أولاً، اعادة وحدة سوريا وفلسطين ولبنان وشرق الأردن في دولة واحدة.

ثانياً، منح المارونيين في لبنان – لدى طلبهم – نوعاً من الحكم خاصا بهم، يشبه ذلك الذي كان يطبّق عليهم أيام الحكم التركي الأخير.

والحال أن الهاشميين، سواء كان في العراق أو في شرق الأردن، لم يكفّوا عن سعيهم الحثيث الى سوريا الكبرى تحت أي عرش من عروشهم.