التمعّن في الوضع المالي والاقتصادي يقود الى استنتاجات مقلقة. ومن يحتسب هرم نمو الدين العام في السنتين المقبلتين فقط، يُدرك انّ ما تفعله الحكومة من خلال مشروع موازنة 2019 هو مجرّد تعمية لكارثة لا يمكن تفاديها بهذا الاسلوب.
لا تكمن خطورة البندين الرئيسيين في مشروع الموازنة القابعة حالياً في لجنة المال والموازنة، والمتعلقين بإصدار الـ12 الف مليار بفائدة 1%، وزيادة رسم الـ2% على المستوردات، في الجدل القائم حول إمكان تنفيذهما. بل انّ الأخطر يرتبط بطبيعة البندين. أحدهما مجرّد عملية «سواب» تنقل حوالى 450 مليون دولار من كمبيالات مُستحقة، من دفتر وزارة المال الى دفتر مصرف لبنان. والثاني مجرّد ضريبة غير مباشرة يدفعها الفقير بالتساوي مع الميسور، وستتراوح بين 3 و5% ارتفاعاً في اسعار كل السلع تقريباً، وتدرّ حوالى 350 مليون دولار للخزينة. وكل ضريبة في فترة الركود تتحوّل تراجعاً اضافياً في حركة الاقتصاد التي وصلت الى مرحلة قريبة جداً من الانكماش.
يُستدلّ من هذا الواقع، انّ مشكلة البلد المالية بنيوية، فيما المعالجات تركّز على نقاط تفصيلية متفرّعة من الأزمة الأساس، وهي العجز الذي راكم الدين العام خلال سنوات، ووصل اليوم الى مرحلة أصبحت معها الدولة شبه عاجزة عن سداد فوائد هذا الدين.
هذه النتيجة كانت متوقعة طبعاً، لمن كان يتابع المسار المالي العام للدولة، لكن التوقيت جاء أسرع قليلاً من التوقعات بسبب تطورين ساهما في دفع الأزمة الى الامام:
اولاً- إقرار سلسلة الرتب والرواتب في 2017.
ثانياً – حادثة إعلان استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من السعودية في تشرين الثاني 2017.
التطور الاول، اعتُبر بمثابة نقطة تحوّل في حجم نمو العجز واستطراداً الدين العام، اذ قفز العجز من 4,8 مليارات دولار في 2017 الى 6,3 مليارات دولار في 2018. وبالتالي، فإنّ السلسلة تتحمّل منفردة المسؤولية عن عجز اضافي بقيمة مليار ونصف المليار دولار. والمفارقة هنا، انّه عندما أُقرّت السلسلة بالتزامن مع سلّة ضرائبية ومجموعة إجراءات جديدة، كان البعض في الدولة يعتقد انّه «يتشاطر» على الناس، وانّ الإجراءات التي تمّ اتخاذها لإقرار السلسلة سوف تؤدي الى رفع حجم إيرادات الخزينة، وخفض العجز بنسبة معينة!
أما في موضوع استقالة الحريري، فانّها كانت بمثابة حادثة تذكيرية بهشاشة الوضع السياسي في البلد، كما انّها شكّلت ذريعة معنوية لإعطاء إشارة البدء في ارتفاع اسعار الفوائد، والتي وصلت اليوم الى مستويات لا يستطيع ان يتحمّلها اقتصاد حجمه حوالى 56 مليار دولار، وكلفة فوائد الدين العام حوالى 6 مليارات دولار سنوياً. وقد باتت تكلفة خدمة الدين تشكّل حوالى نصف إيرادات الدولة. وبعد سنتين فقط، وإذا لم يطرأ ما يسرّع نمو هذا الدين اكثر من المتوقّع، فانّ الكلفة قد ترتفع الى حوالى 8 مليارات دولار.
ما لا يدركه البعض، هو انّ نمو كلفة الفوائد بات اسرع بكثير مما كان عليه قبل 2017. اولاً، لأنّ حجم نمو الدين سنوياً ازداد كثيراً، وثانياً لأنّ معدل اسعار الفوائد ارتفع حوالى 400 نقطة أساس. وهذا يعني انّ البلد بات يدفع كل سنة حوالى 10% على كتلة الدين الجديد(عام 2018 بلغت حوالى 6 مليارات دولار كلفتها حوالى 600 مليون دولار)، وبات يدفع ايضاً فارق السعر في الفائدة على المبالغ المستحقة التي يضطر الى إجراء عمليات (سواب) لتأجيل سدادها.
هذا الواقع الصعب، في ظل المقاربة السخيفة التي جرت حتى الآن على مستوى الموازنة لمعالجة الأزمة، وتحاشي الانهيار، قد يزداد تعقيداً في المرحلة المقبلة، بسبب المستجدات المرتبطة بالتوتر القائم حالياً في المنطقة. صحيح انّ لبنان لا يملك ناقلات نفط ليخاف على مصيرها في مضيق هرمز، ولم يبدأ بعد في استخراج الغاز أو النفط لكي يقلق حول كيفية ضمان تصديرهما، لكن لبنان «يملك» «حزب الله». فهذا الواقع يجعله في قلب المواجهة. وهو ما يفسّر النكبة التي أصيبت بها السندات الحكومية اللبنانية عقب حادثة ضرب ناقلتي نفط في بحر عُمان. وفي حين كان مفهوماً ان ترتفع كلفة التأمين على السندات الحكومية الخليجية، CDS (Credit Default Swap) الى 88 نقطة اساس بالنسبة الى السعودية، و66 نقطة لسندات قطر، لم يكن مفهوماً للبعض في المقابل، لماذا ارتفعت كلفة تأمين الدين اللبناني بسبب هذه الحادثة الى 910 نقاط، بارتفاع حوالى 100 نقطة. الجواب على التساؤل هنا يرتبط بدور لبنان في أي حرب شاملة قد تقع في المنطقة من خلال دور «حزب الله» المُرتقب في هذه المواجهة.
وللتذكير، فانّ كلفة تأمين الدين اللبناني كانت حوالى 520 نقطة اساس في نهاية العام 2017، أي انّها تضاعفت تقريباً في خلال سنتين.
ومن المعروف، انّ اسعار الـ CDS ترتبط وتتناغم مع اسعار الفوائد. بمعنى، انّ كل زيادة في اسعار التأمين قد تنعكس لاحقاً على التصنيف وبالتالي على اسعار الفوائد. والرقم الذي وصل اليه لبنان في كلفة تأمين ديونه رقم قياسي، اذ انّ كلفة تأمين السند باتت قريبة من مردوده، وبات من الصعب إيجاد مستثمر أجنبي يشتري سندات لبنانية.
نقطة القوة الوحيدة التي لا تزال تحمي الوضع المالي من الانهيار تكمن في حجم القطاع المصرفي وحجم الودائع والاحتياطي الموجود في مصرف لبنان. لكن، الحكومة تعمل حالياً من خلال سياسة الهروب الى الامام على إضعاف نقطة القوة هذه، وصولاً الى تجريد الاقتصاد من أي سلاح قد يدافع به عن نفسه في وجه الكارثة.