إنّ التحدّي الكبير الذي يُواجه اللبنانيين بعد مئة سنة من عمر نشوء لبنان الكبير يتمثّل بالتساؤل التاريخيّ، وهوَ هل إنّ تجربة لبنان الميثاقيّ قد نجحت؟ وهل نستطيع إنقاذها لدخولِها عُمر ما بعد المئة سنة؟
وتقييماً لهذا الأمر، علينا العمل على عدم حصره بالمرحلة الحالية الفاشلة للدولة اللبنانية. فالتجربة اللبنانية الحقيقية ليست بالتأكيد ما نعيشه الآن، والواقعية والموضوعية تدفعنا للدخول إلى كافة مراحل المئة سنة التي مرّت بها الدولة اللبنانية، من أجل تحليل التصنيفات السياسية لكلّ مرحلة من هذه المراحل المتنوّعة والمختلفة جذريّاً، وأخطرها ما نمرّ به اليوم، كونه فعلياً قد يُعتبر أبعد ما يكون عن هوية لبنان المئة سنة.
إنّ التجربة اللبنانية القاسية والناجحة والفاشلة، وما بينَ بينْ، هيَ تجارب جمّة، تتعلّق بالتوازنات الإقليمية والدولية والصراعات والحروب الباردة والحامية. فلبنان الدولة الصغيرة المناقضة لجوارِها، بصيغتها وبذهنيتها وبتركيبتها وبنظامها وبطريقة عيشها وبنجاحاتها، كانت دائماً تحت ضغط التأثيرات الإقليمية بكافّة قطاعاتِها، فهذا اللبنان الذي أزعج إسرائيل بميثاقِه التعايشيّ المُناقض لتكوينها، وهذا اللبنان الذي أضرّ النظام السوري بنظامه الإقتصادي والتّحرّري والإنفتاحي المُناقض لمفاهيمه الحديديّة، هذا اللبنان الفاضح لهاتين الدولتين المُجاورتين، أصبح نتيجة ذلك فريستهما الدائمة، فأطماعهما به وطموحهما بضمّه بات إستراتيجية لا تنطفئ، ولم تستطع كافّة الحمايات الدولية والأُمَمِيّة من ردّ شرورهما عنه، ولم يكن لِلبنان فترات هادئة إلّا بلحظاتٍ قصيرة من المئة سنة، ولأسبابٍ ربّما تفيد سياساتهما الإقليمية، وقد كان لِتدخّلاتهما إنعكاس واضح على بعض الأطراف اللبنانية وغير اللبنانية، المتواجدة على أرض لبنان. فمثلاً، أُدخِلت القضية الفلسطينية إلى المسألة اللبنانية، وأصبح لحروب الآخرين في لبنان الدور الأكبر في فترات كثيرة من المئة سنة.
قد يكون من المنطقي إعتبار أنّ التركيبة الضعيفة الفاقدة للمناعة لِلُبنان الميثاقيّ، هيَ التي عرّضته للإنكسار وللإنفراط وللتبعيّة وللإحتلالات، ولكن من الموضوعية أيضاً إعتبار أنّ للتركيبة التّعددية والمتوازنة للبنان دوراً في حمايته وصمود فئاته، حيث حالت دون تحوّلِه دولة شبيهة بالدول المجاورة له. فبالرغم من جميع الضغوطات العسكرية والأمنية والغلبة المتنقّلة وبين الفئات المؤلّفة للمجتمع اللبناني، إستطاعت هذه الفئات اللبنانية الدفاع عن نفسها والبقاء في مكانتها، ولم تُؤدّ المواجهات والغزوات والتّغيُّرات في القيادات الوطنية إلى إلغاء أي فئة من فئات نسيجه الإجتماعي المركّب. وهذا الواقع يؤكّد أنّ لبنان الكبير لم يكن وليد لحظة إنبثاق خاطئة، ولم يكن تجربة فاشلة، بل بالفعل قاسية، ولكنّها بالتّأكيد ناجحة. ففي كثيرٍ من مراحله، كان لبنان يُعدّ من أنجح الدول إقتصادياً وسياسياً ومجتمعياً وأمنياً، واستطاع نتيجة ذلك تحقيق التّقدم والإزدهار، حتى بات قبلةً للسياحة العالمية، وملجأً للسياسيين والمفكّرين الدوليين وللصحافة العالمية.
إنّ المشاهدات التاريخية تدفعنا الى اعتبار لبنان المئة سنة من دول العالم المتعثّر، ولكن الكثير من تعثّره كان نِتاج جغرافيّته، التي طالما اعتُبِرت نعمةً له، ولكنّها بالفعل أضحت نقمةً عليه بفضل جِواره المناقض له. وبمقارنةٍ بسيطة بينه وبين هذه الدول، نرى أنّها لم تكن بحالٍ أفضل من حاله، ولم تصبح. فأنظمتها الحديدية وأفواجها العسكرية وفرقها الأمنية وطائراتها القاصفة وعلاقاتها الدولية، لم تضعها في وضعٍ آمن ومستقرّ أكثر من لبنان، ففي الوقت الذي عملَت الدولتان المُجاورتان للبنان على هزّ الإستقرار اللبناني، إنهارت إحداهما بشكلٍ سريع، أما الأخرى فمع كلّ جبروتها وعلاقاتها الدولية، فلم تنلْ السلام والتّطبيع والعيش الهنيء مع جيرانها، وتخشى دائماً الهجرة المعاكسة التي تهدّد كيانها.
إذاً، لبنان المئة سنة، بواقعه وتركيبته وعيشه الحرّ، كان تجربة ناجحة ولكنّها قاسية، لأنّ الفُسيفِساء الذي تمتّع به كان غِناه، ولكنّه كان دائماً بحاجة للصيانة، لأنّ لبنان ليس جزيرة بمنأَى عن التّدخلات، وجماله ونجاحاته المتعدّدة جعلته جاذباً للمشاريع السوداء البغيضة والقاتمة والإستغلالية.
كلّ ذلك كان لبنان المئة سنة، أمّا الحالي فهو مُخالف لكلّ المراحل السابقة التي لم يكن فيها مُهدّداً بهويته وعيشه ووجوده. فالحكّام الحاليون لا يشبهونه أبداً، ولا يؤمنون بحريّته ولا يعترفون بديمومته، المرحلة الحالية هيَ المرحلة الوحيدة التي يُحكَمُ لبنان بها من فريقٍ يسعى لقتل المئة سنة، ولخلق دولةٍ جديدة تابعة لعقلية فاشيّة إلغائية بوليسية متزمّتة وزبائنية، وإن نجاح هذا الحكم بالإستمرار بالتسلّط يعني أنّ لبنان قد طبّق مقولة “عقبال المية” وتوقّف عندها. فإن أردنا الحفاظ على أزليّته، علينا الدفاع عنه، الدفاع عن ذهنيّته وحريته وعقليّته، وليس فقط عن يابسته وبحره وأرزاقه. لبنان الرسالة ليس جامداً، بل هو روح وعقل وفكر وعلاقات إنسانية، ولا يحميه إلّا بناء الدولة الحقيقية العميقة، دولة المؤسسات البعيدة من مفهوم المزرعة، دولة الجمهورية القوية المُناقضة للسلطة القوية المتْبعة بزعيم واهم بالقوّة. فالشعب اللبناني يريد المؤسسات القوية والقضاء القوي والأمن القوي والسلطات القوية والسيادة القوية، ويُريدها جميعها قوية بعدالتها وبشفافيّتها. إنها المسؤولية التاريخية للجيل اللبناني الحالي أن يُدافع عن لبنان المئة سنة، وأن يُسقط لبنان السنوات القليلة الأخيرة الفاشلة. أما اللبنان الجديد الذي يجب بناؤه لضمان إستمرارية لبنان المئة سنة، فهو دولة الإدارة المتلائمة مع تطلّعات الشعب الحضاري، إدارة صديقة للمواطنية وللعالم المتقدّم وللإنسانية جمعاء وللحرية وللإنفتاح، مُصانة بالديموقراطية وبالمحاسبة وبالإستقلالية القضائية، وبالإبتعاد عن مفاهيم الزعامات التي لا تُحاسب، وبإختيار القيادات التي تخضع للمحاسبة وللعقاب أو للمكافأة.