12 مسألة تنازلية كاشف فيها الملك سلمان الحريري
الاستقالة لا عودة عنها و«السعودية الجديدة» دخلت بمواجهة مباشرة دفاعاً عن أرضها وشعبها
هل يتحوّل لبنان إلى قطر رقم 2… وهل يدفع أبناؤه ثمن المغامرات والغباء؟!
أسبوع على إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته من الرياض، والنقاش الدائر لدى مكوّنات التسوية السياسية في البلد لا يخرج عن طريقة الاستقالة وشكلها، متجاهلين لبّ الأزمة والوقائع الجديدة لما بعد الرابع من تشرين الثاني. هنا يصح القول حقيقة أن ما بعد الرابع من تشرين الثاني ليس كما قبله. نحن أمام «سعودية جديدة»، أمر لم يستوعبه أطراف التسوية واستخفوا به، ويدل أداؤهم على أمر من اثنين، إما أنهم عاجزون عن فهم التحوّلات الكبرى في المملكة، أو أنهم يناورون في لعبة كسب الوقت من خلال حرف الأنظار عن أصل الأزمة وتحويلها إلى معركة فك أسر الحريري وتحريره من معتقله السعودي، فتكون عودته تحقيق نصر على السعودية وليّ لذراعها.
بعيداً عن المآخذ التي يمكن للمراقب أن يسجلها على مظهر الاستقالة التي شكلت صدمة لم يستفق منها أركان التسوية، فإن المكاشفة التي أجرتها المملكة مع الحريري، وجاء جزء منها خلال لقائه مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز معدداً اثنتي عشرة مسألة حصلت في «سنة التسوية الأولى»، ومنها ما يستهدف المملكة مباشرة، لم تأخذ منها حكومة لبنان موقفاً صريحاً، لا بل تهاونت، فيما كانت أسس التسوية التي بُنيت على سياسة تحييد لبنان والنأي بالنفس والحفاظ على الطائف واحترام القرارات الدولية تفترض من الحكومة اتخاذ المواقف المناسبة، ومن رئيسها التصرّف من موقع مسؤوليته.
كان يُعبّر في الغرف المغلقة عن الكثير من الاستياء على حجم التنازلات التي يقدّمها الحريري في طريقة أدائه، وفي المسار الانحداري الذي يسير عليه نحو ترك البلاد تسقط في الفلك الإيراني بشكل كليّ، سواء في التعيينات أو في المواقف الرسمية التي أطلقها رئيس الجمهورية من سلاح «حزب الله»، الذي تطوّر من كونه سلاحاً مكملاً للجيش إلى ربطه بحل قضية الشرق الأوسط، وصولاً إلى اعتبار إيران أن لا قرار يمرّ في لبنان من دون موافقتها، وأن طهران معنية بحماية لبنان الذي أصبح جزءاً من محورها. وكانت وصلت إلى الحريري إشارات استياء وتحذيرات، سواء من المملكة أو من الإدارة الأميركية، حول ترك الأمور سائرة على ما هي عليه، لكنه كان يتسلح دائماً بالتعبير عن رؤيته للوضع، والذي ينطلق من أنه في ظل الخلل الاستراتيجي في المنطقة، فهو غير قادر على أن يقوم بأكثر مما يقوم به، وأن تركيزه منصبّ على حماية الاستقرار في لبنان وتحسين الوضع الاقتصادي وظروف عيش اللبنانيين، في انتظار ما ستؤول إليه تطورات المنطقة مستقبلاً، وما إذا كانت ستُحدث تغييراً ما في موازين القوى يمكن أن يؤول إلى تعديل المشهد على الساحة الداخلية.
لم تكن المشكلة في حرص الحريري على عدم الإطاحة بالتسوية السياسية، بل كانت في أطراف التسوية الآخرين الذين ذهبوا بعيداً في قضمها، مستفيدين من رؤية الرجل ورهانهم على أنه باق فيها. لم يعر «حزب الله» أهمية لمبدأ ربط النزاع، ولا أعار شريكه في الثنائية الشيعية رئيس «حركة أمل» نبيه بري مبدأ تحييد لبنان عن النزاع في سوريا أية أهمية، حين طالب – بعد زيارة له لطهران – بعودة العلاقات بين لبنان وسوريا من بوابة معالجة ملف النزوح السوري، ولا أعار رئيس البلاد أهمية لما أورده في خطاب القسم حيال تحييد لبنان وعلاقات لبنان العربية والدولية واحترام القرارات الدولية. ولا تنبه الحريري لكل الخلل الذي أدى إلى مسار انحداري متسارع.
يوم أعلن الحريري عن سلوكه مسار التسوية، قال بوضوح إنها مخاطرة كبرى. واليوم مع التطورات الحاصلة، بدا واضحا أنها كانت مخاطرة كبرى ليس على الرجل ورصيده السياسي بل على لبنان برمته. فلبنان اليوم في مأزق كبير رغم كل المكابرة. ولا ينم الأداء الحالي أن العهد مدرك لحجم المخاطر المحدقة بالبلاد. التلهي باعتبار أن الحريري في الاقامة الجبرية ومحتجز، وتحويل المعركة إلى المطالبة بعودته إلى لبنان، يُظهر القيمين على الحكم بأنهم غير واعين على أن قواعد اللعبة قد تغيّرت، وأن ركيزة من ركائز التسوية الثلاث قد خرجت من المعادلة، سواء بالاستقالة «الطوعية أو الجبرية»، وأن لبنان بات أمام لحظة الحقيقة.
فإذا كان «حزب الله» مكوّناً داخلياً يمثل جزءاً كبيراً من الشيعة، وهو جزء من الحكومة لا بل يضع يده على كل مفاصل الدولة، فهذا يعني أن لبنان الرسمي عاجز عن الحفاظ على الدولة وواجباتها تجاه الدول الأخرى حين يتعرّض أمنها القومي على يد ميليشيا لبنانية للخطر، وبالتالي فإن عليه أن يتحمّل العواقب إذا استمر في التغاضي عن هذا الواقع، والقيام بايجاد السبل الكفيلة بوقف تحوله إلى منصة لاستهداف الدول الأخرى، ولا سيما دول الخليج، وتحديداً السعودية من الخاصرة اليمنية.
وإذا كان لبنان يتلطى بذريعة أن «حزب الله» أضحى بحجمه العسكري أكبر من قدرة الدولة وأن حله ليس حلاً داخلياً، بل يتطلب حلاً إقليمياً ودولياً، فإن هذا يعني أن المواقف والإجراءات التي تأخذها السعودية لحماية أمنها المجتمعي والداخلي والقومي هي مسألة حيوية لها، أمنياً وعسكرياً ومجتمعياً، تتكامل مع البعد الاستراتيجي، الذي تظهّر مع مجيء إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من أن الأولوية الأميركية في المنطقة التي تلي الانتهاء من تنظيم «داعش»، هي تحجيم النفوذ الإيراني عبر ضرب أذرعه العسكرية التي تمثلها الميليشيات الشيعية وعلى رأسها «حزب الله»، بوصفه الذراع الأقوى الذي استثمر فيه الإيرانيون على مر العقود الماضية.
السؤال الذي يطرحه محور الممانعة في لبنان هو: هل ما زال ممكناً ترميم التسوية، أم أنها سقطت؟ ليس واضحاً بعد المنحى الذي ستأخذه الأمور. الأكيد أن استقالة الحريري لا عودة عنها، بمعنى أن العودة إلى ما قبل الرابع من تشرين الثاني أصبحت من الماضي، ووهماً إذا ظن رئيس الجمهورية ومن خلفه «حزب الله» أنهما قادران على لملمة الأمور.
المسألة برمتها باتت أكبر من لبنان. «السعودية الجديدة» دخلت في المواجهة بالمباشر في دفاع عن أرضها وشعبها. ومواجهة التحالف التي تضاعفت واشتدت منذ إطلاق الصاروخ البالستي على الرياض ماضية بغطاء أميركي واضح، ولن يكون الأمر مع «حزب الله» أقل وطأة، وإن اختلفت الوسائل من عسكرية محض إلى اقتصادية ومالية على لبنان، ما دام لبنان برمته ارتضى الصمت وعدم المبادرة إلى الدفاع عن مصالح شعبه، وما دام أبناء لبنان المنتشرون في الخليج بمئات الآلاف لم يضغطوا في اتجاه دفع قياداتهم لتصويب الأمور.
اللافت هو قصور الساسة اللبنانيين. فهؤلاء منذ أشهر عايشوا وقائع الحصار على قطر، الدولة الشقيقة، حيث الروابط العائلية والقبلية ضاربة في الجذور، فلم يتنبهوا. اليوم بات الحديث يدور عن السيناريوهات المتوقعة للرد السعودي، وبينها تحول لبنان إلى «قطر 2»، مع فارق أساسي أن قطر دولة غنية بعدد سكان لا يتعدى بضع مئات الآلاف، وقادرة على الصمود لمدى زمني في وجه العواصف، بخلاف لبنان الهش اقتصادياً وحتى مالياً، ما يجعل انهياره سريعاً، وقد يؤدي إلى فوضى داخلية إذا لم يتم تدارك الأمر سريعاً عبر حلول جذرية تبدأ بالبحث في أصل الأزمة، وليس الهروب منها إلى الأمام. وأصل الأزمة يبدأ من الإقرار بأن لبنان لم يعد يتحمّل وجود دويلة ضمن الدولة وسلاح غير شرعي إلى جانب السلاح الشرعي، وليس بمقدوره أن يكون بؤرة تهدد أمن الدول، على أيدي جماعة تتغنى بمدى قوتها الإقليمية التي تشكل جزءاً من مشروع الممانعة في المنطقة، ضاربة عرض الحائط كل الاعتبارات والمصالح اللبنانية ومنطق الدولة.
الأداء الراهن لا يشي باتجاه نحو البحث في كيفية تجنيب لبنان الكأس المرّة، فرغبة كتلك كانت تتطلب مساراً مختلفاً. إنه أداء يُخفي في طياته رغبة في تسعير الأزمة، وفي وضع لبنان في مواجهة المملكة وحلفائها في الدرجة الأولى، وفي مواجهة المحيط العربي، من دون ضوابط إذا امتدت تلك المواجهة إلى المجتمع الدولي. وما يُبحث في الكواليس عن أسماء سنية من الصف الرابع والخامس حاضرة لأن تتولى رئاسة الحكومة لهو دليل على أن ثمة من هو في غيبوبة من أمره، أو أنه يعتقد أنه قادر حقيقة على مواجهة الكون بمفرده. المصيبة أن أحداً لا يتعظ من التاريخ، غير أن المشكلة أن لبنان بأبنائه سيدفع ثمن الغباء والمغامرات غير المحسوبة، إذا لم يُصبْ أطراف التسوية بنوبة من التعقل بدل الجنون.