Site icon IMLebanon

12 عاماً على قَسَم جبران..ونبقى موحّدين

 

“نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحدين، إلى أبد الآبدين، دفاعاً عن لبنان العظيم”. هو قَسَم النائب الشهيد جبران التويني، هو القسم الذي تحوّل إلى شعار للوحدة وعنوان للتلاقي بين شعب قرر أن يكسر القيد وأن يشق فجر الحرية بعد سنوات طويلة عاشها تحت حكم الوصاية السورية وقانون العسكر والأمن. واليوم وبعد اثني عشر عاماً على استشهاد صاحب القسم، لا يزال اللبنانيون يستذكرون كلماته ويعيشون لحظات الانتصار الذي تحقّق برفقته على جلاّد كانوا أخرجوه سويّاً من أرضهم مدحوراً، مذلولاً، يجر وراءه أذيال خيبته وإجرامه، قبل أن يعود مجدداً من بوابة التفجير وعمليات الإغتيال المتتالية.

تاريخ الثاني عشر من كانون الأوّل العام 2005، لم يكن يوماً عاديّاً في تاريخ لبنان ولا في حياة اللبنانيين. في ذلك اليوم كان لبنان على موعد وللمرة الخامسة مع اغتيال جديد، بعد استهداف الرئيس رفيق الحريري والوزير باسل فليحان والصحافي سمير قصير وجورج حاوي من دون إغفال محاولة اغتيال النائب مروان حمادة. لقد وقع الدور هذه المرّة على النائب والصحافي المتميّز جبران التويني بواسطة سيارة مفخخة جرى تفجيرها عن بُعد لحظة مرور سيارته في منطقة “المكلّس” ولتضع حداً لقلم أحد أبرز الوجوه المعارضة للوجود العسكري والأمني السوري في لبنان والهيمنة عليه.

حمل جبران التويني في حياته كما في كلمته، قضية وطنه مثلما يمتشق الثوّار بنادقهم. كان يسأل عن كل المعتقلين في السجون السورية والإسرائيلية ولم يُميّز بين اسم وآخر. حمل قضايا شعبه وترجمها حبراً على ورق صحيفته، فكان مفعولها أمضى من مفعول السلاح. ولأنه من هذه الطينة ومن هذه الهامة التي تُشبه عطر قلمه، فقد تناول الصحافي جان بيار بيران من “ليبراسيون” قضية جبران الشهيد والإنسان، فقال يومها: “في لبنان لم تُذكر أسماء من عُذّب أو اعتقل أو قُتل أثناء الاحتلال السوري واثناء كل الحروب التي مرت”، متوجهاً الى اللبنانيين بالقول: “إذا لم تعترفوا بما حصل ولم تتذكروا فلن يكون لديكم ذاكرة وسيعيد التاريخ نفسه”. ومن المعروف أن جُبران كان واجه قبل اغتياله، تهديدات كثيرة لكنه واجهها بقليل من المُبالاة وكثير من الإيمان. ونقل عنه قوله انه “ما أن يتخذ المرء القرار بأن يُصبح صحافياً في هذه المنطقة، عليه أن يدرك أن ذلك قد يؤدي الى مقتله أو اغتياله”، لكنه أعلن صراحة وفي أكثر من مناسبة بحسب المقربين منه، أن “النظام السوري يريد قتلي”.

كان جبران الحلم، يُشبه لبنان بعنفوانه. كان حُرّاً على الرغم من السجن الكبير الذي كان يلف وطنه. حلم مثل كل اللبنانيين بدولة سيادية حرّة ومستقلة. دولة لها حدود يحميها جيش وقوى أمنية ورئيس ومؤسسات. كان يقترب من هذا الحلم أحياناً ويبتعد عنه أحياناً اخرى، لأسباب كانت تتعلق بالواقع المُخيف الذي كان يُهيمن على البلد ويأسره. لكن إيمان جبران وإصراره على العبور إلى الدولة مع رفاقه في مهنة الكلمة الحرة وفي النضال السياسي وإيمانه باللبناني الآخر حتّى لو شذّ عن القاعدة الوطنية في لحظة ضعف، جعله يؤكد في اكثر من مناسبة أن “هذا البلد لا يحكم ولا يعيش الا بتوافق أبنائه، وإن حصل أن خرج أحدهم عن مشورة البقية فعلينا ان نعيده الى حظيرة الوطن التي تجمعنا من دون تفرقة”. هذا هو جبران وهذا هو حلمه وهذا عهده وقسمه.

على الرغم من الألم الذي خلّفه رحيل جبران في نفوس الأحرار والمؤمنين بهوية وطنهم، إلّا ان دماءه لم تذهب هدراً ولا سدى، فقد كان تاريخ استشهاده، عنواناً ليوم شهدت فيه المحكمة الدولية ولادتها نظريّاً وفي ذكراه الخامسة كان موعد صدور القرار الظني الخاص والمتعلق بـ “جريمة العصر”، فكان أن طُبع لبنان في صفحات تاريخ الثورات والتغيير، الثورة على الظلم والقتل والاستبداد، والتغيير الذي لطالما انتظره الشعب اللبناني لكي يُصبح حقيقة ملموسة يعيشها في حياته اليومية، فكان أن ترجمت الثورة والتغيير بكلمات لا زالت تتردد حتّى اليوم عند كل مفصل أو استحقاق وطني: حريّة، سيادة، استقلال.

يوم اغتيال الرئيس رينيه معوض، قال والد جبران الصحافي الكبير غسّان التويني “جفت عيون شعبنا، فلم يعد يقوى أحد على البكاء. نكاد نصير كلنا غضباً وجنوناً.. يحاولون مرّة أخرى اغتياله بل افتراسه. المؤامرة لا تشبع، المؤامرة لا ترحم، وهي تفترس الشهداء في كل صوب كأنها توحدنا هكذا، توحدنا المؤامرات في الموت، من رئيس الى رئيس، من زعيم الى زعيم. دور من يأتي غداً؟”. لم يكن يدري أن يد الغدر سوف تنال ذات يوم، من فلذة كبده، من حلمه ومن وجوده. وفي يوم الإستشهاد دعا الجميع “لا إلى انتقام ولا إلى حقد، بل إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد والكلام الخلافي، وأن ننادي بصوت واحد ذاك القسم في ساحة الشهداء يوم انتفاضة 2005 التي ذهب ضحيتها”.

في ذكراه الثانية عشرة، شدد أصحاب جبران في الوسطين السياسي والإعلامي، على أنه كان حراً وصاحب كلمة الحق والقلم الحر. مواقفه كانت أصلب من بنادقهم ومتفجراتهم. قتله أصحاب الغدر والخيانة بعد أن واجههم بحقيقة أمرهم. جبران أراد وطناً واحداً حراً مستقلاً، وهم أرادوه وطناً مُقسّماً تابعاً مذلولاً. ويتفق الأصحاب أن اغتياله جاء بعد أن نزع القاتل قناع التزلف والكذب والمتاجرة بالوطنية. نعم قتلوا جبران، ولكن سيبقى شعاره يصدح عند بزوغ كل فجر جديد، “سيادة حرية استقلال”.