أظهرت التحرّكات الشعبية الأخيرة لـ»التيار الوطني الحر» أنّ هناك خللاً كبيراً على مستوى الحشد يستدعي من قيادة التيار إجراءَ عملية تقييم دقيقة لمعرفة ما إذا كان من طبيعة سياسية أم تنظيمية أو الاثنين معاً.
الدعوة التي أطلقها العماد ميشال عون للنزول إلى الشارع لا تحتمل الكلام التبريري عن تحركات متدحرجة بدأت خجولة جداً في التظاهرة الأولى وتحوّلت إلى خجولة في التظاهرة الأخيرة. ولو كان باستطاعته إنزال كلّ لبنان لما قصّر، لأنه لو نجح في التظاهرة الأولى لكان فرْمَل قرارَ تأجيل التسريح أو حال أقله دون صدوره بالشكل الذي صدر فيه كسلة متكاملة.
فبعد فشل التحرك الأوّل أراد عون استبدال الصورة المتواضعة السابقة بصورة شعبية تعويضية جديدة، ولكن حتى هذه الصورة لم تكن على مستوى التوقعات، ولا سيما أنها ترافقت مع تعبئة استثنائية تولّاها عون شخصياً بالكلام عن الالتزام والتحفيز على التظاهر والتذكير بزمن الوصاية وإلى ما هنالك من محاولات لشدّ العصب، لأنّ تجاوزه عسكرياً يمكن أن ينسحب رئاسياً في المستقبل.
وأما الأسباب التي حالت دون القدرة العونية على الحشد فقد يكون مردّها إلى الآتي:
أولاً، الحالة العونية قامت على ركيزتين: دعم الجيش والعداء لـ»القوات»، فإذا بها تتحوّل إلى صديقة لـ»القوات» وفي موقع الخصومة مع الجيش. وأما التمييز بين المؤسسة وقائدها فهو هرطقة، لأنّ رمز هذه المؤسسة هو قائدها. وعلى مستوى «القوات» نجح الدكتور سمير جعجع في حرمان عون من العدائية حيال «القوات».
ثانياً، غياب القضية السياسية الواضحة، حيث إنّ التركيز العوني انتقل بعد الخروج السوري من لبنان إلى عنوان استعادة حقوق المسيحيين، والذي انحصر بدوره بوصول العماد عون إلى الرئاسة والعميد شامل روكز إلى قيادة الجيش، وعلى رغم أهمية وصول رئيس التيار، بالنسبة إلى قواعده، إلى موقع الرئاسة الأولى، إلّا أنّ هذا الهدف لا يشكّل قضية بحدّ ذاتها، أو يشكّل قضية عونية لا مسيحية، فضلاً عن أنّ معظم القضايا عموماً تكون أبعد من شخصية، إلّا في حالات الظلم والقهر والاعتقال والإبعاد، أو في حال إشعار الناس أنّ وصوله سيُحدِث تغييراً فعلياً في مسار الأمور على غرار انتخاب الشيخ بشير الجميل، الأمر الذي لا ينطبق على العماد عون في ظلّ تحالفه مع «حزب الله».
ومن ثمّ استعادة حقوق المسيحيين لا تكون فقط من خلال إيصال الأكثر تمثيلاً، بل تتطلب وضع خريطة طريق واضحة وشاملة تبدأ من تحقيق السيادة وقيام الدولة ولا تنتهي بقانون الانتخاب واللامركزية.
ثالثاً، الممارسة السياسية لـ»التيار الحر»، بعد أكثر من عشر سنوات على عودة العماد عون إلى لبنان، أرهقته وأظهرته على غير الصورة التي يحاول تظهيرها، حيث بيّنت انها لا تختلف شكلاً ومضموناً عن سائر القوى السياسية.
رابعاً، التقلبات في العلاقات السياسية تؤثر سلباً في جاهزية الجماهير التي لا تتقبل بسهولة عملية الانتقال من مرحلة خلافية الى مرحلة تصالحية على غرار العلاقة مع «المستقبل» التي شهدت صعوداً وهبوطاً، فيما «المستقبل» لم يتبدّل في مرحلتَي الصعود والهبوط، والذي تبدّل هو «التيار الحر» الذي عاود التسخين في اللحظة التي لَمَس فيها أنّ أفقَ التعاون السلطوي مع «المستقبل» مقفل. كما أنّ الناس لا يتقبلون فكرة أن يتحوّل فريق سياسي بين ليلة وضحاها من صديق إلى عدوّ، ومن معتدل إلى داعشي.
خامساً، العنوان السياسي الأساسي للتحرك المتصل بتأجيل التسريح غير جذاب، كما أنّ غيابَ الأفق السياسي لهذا التحرّك لا يشجّع الناس على النزول إلى الشارع.
سادساً، التحرك من دون الحلفاء وفي ظلّ الخطوط الحمراء الموضوعة حول الاستقرار والحكومة والحوار يكبِّل الناس ويفقدهم الحماسة السياسية.
سابعاً، القرف الذي ينتاب الرأي العام من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية يحوِّل اهتمامات هذا الرأي العام السياسية إلى ثانوية، خصوصاً بعد قضية النفايات.
ثامناً، التوقيت السياسي للتحرّك غير ملائم، حيث إنّ الناس يفضّلون في فصل الصيف وتحديداً في شهر آب ارتياد البحر والجبل بدلاً من النزول إلى الشارع.
تاسعاً، الصراعات داخل «التيار الحر» على خلفية الانتخابات الداخلية التي تشكّل تحدّياً كبيراً ويترتّب على نتائجها مصير هذا التيار في المرحلة المقبلة، تجعل الاهتمام داخلياً بامتياز.
عاشراً، المعارك التي خاضها ويخوضها العماد عون الرئاسية والعسكرية والحزبية ولدت انطباعاً لدى العونيين بأنّ الطابع الشخصي فيها يغلب على الطابع الوطني.
حادي عشر، المسيحيون لا يستسيغون إجمالاً التحرّك في الشارع إلّا في الحالات القصوى والضرورة.
ثاني عشر، الشعبية التي تظهر باستطلاعات الرأي وفي صناديق الاقتراع هي غيرها تماماً التي تنزل إلى الشارع، وبالتالي من الخطأ إسقاط شعبية الاستطلاع على الشارع.
ثالث عشر، إنّ دلّ التحرك الشعبي لـ»التيار الحر» في المرتين المتتاليتين على شيء فعلى أنّ الماكينة العونية بحاجة لـ»تغيير وإصلاح»، حيث إنّ غياب التنظيم برز فاضحاً، فيما الأمر لا ينطبق مثلاً على «القوات اللبنانية» التي باستطاعتها تحريك قواعدها بالآلاف من دون جهد بسبب قدرتها التنظيمية على أساس مناطقي وقطاعي وطالبي…
فلكلّ هذه الأسباب وغيرها فشل التحرّك العوني، وقد ظهر الجنرال بمظهر غير القادر على تحريك الشارع، كما فقد، بعد الشعارات التي رفعها، أيّ قدرة على القول إنه على مسافة واحدة من اللبنانيين، ما يعني أنّ وصوله يستدعي انتصار المحور الذي ينتمي إليه، وهو من سابع المستحيلات، وفقد أيضاً عاملاً آخر مهماً وهو غياب الثقة الدولية بشخصه وأدائه.