يقتضي الاعتراف بأنه حين خرجت الناس تطالب بالتحقيق الدولي لأجل معرفة من أعطى الأمر ومن خطّط ومن نفّذ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بتفجير موكبه، لم يكن الأكثر تفاؤلاً بإمكانه التصور بأن تشكيل محكمة دولية من أجل لبنان هو في قيد الإمكان والتحقق. يقتضي الاعتراف في المقابل، بأنه من اللحظة التي انطلق فيها قطار تشكيل هذه المحكمة، كان معظمنا يتوقع أمداً لإجلاء الحقيقة سابقاً على يومنا هذا بسنوات عديدة.
بعد ثلاثة عشر عاماً على تلك الجريمة المروعة التي كانت تتكثّف فيها بشكل أو بآخر مصائر البلدين، لبنان وسوريا، للسنوات التالية، يأتي حديث رئيسة المحكمة ايفانا هيردلشكوفا في اطار الندوة الاعلامية التي نظمها قسم الاعلام والتواصل في المحكمة، بكلمات محددة وموجزة لكنها تشي بالفعل بأن أكثر العمل أنجز، وبأن المسار القضائي، سواء في القضية الأم، اغتيال الرئيس الحريري، او في القضايا المتلازمة، مستقل بذاته عن ايقاع الحياة السياسية اللبنانية والحسابات المختلفة. صحيح ان المحكمة الدولية لم تعد في يوميات الاستقطاب السياسي منذ فترة في لبنان، لكن ما يلمس ايضاً، مباشرة بعد حديث هيردلشكوفا مثلاً، ان مسألة المحكمة ليست ابداً شيئاً يعتبره اخصامها في الاقليم بأنها وراءهم، هذا رغم كل ما حصل في السنوات الثلاث عشرة الاخيرة من اجل إعاقة معرفة الحقيقة في ما يمكن الاصطلاح على تسميته الحرب السرية ضد مشروع الاستقلال الثاني للبنان.
ثلاثة عشر عاماً غير قليلة، وما عرفناه فيها من ازمات لبنانية وكارثة سورية كبرى قضى على الكثير من التفاؤل التحرري الذي عبّر عنه الشهيد سمير قصير، أول من طالتهم الحرب السرية ضد لبنان بعد الرئيس الحريري، من خلال معادلة “استقلال لبنان وديموقراطية سوريا”. صحيح ان الشعار أثبت “منطقيته” طيلة السنوات الماضية، و”أحقّيته”، لكن قوى المجتمع الحيّة أُنهكت بالفعل في البلدين بحيث أنه، ورغم الاختلاف الكبير بين الوضع اللبناني، الذي لم ينزلق رغم كل الازمات والحرب السرية، الى حرب اهلية، وبين الوضع السوري، الذي تجاوز الحرب الاهلية الى الكارثة التدميرية الشاملة للمجتمع، فإنه ظهر ان سوريا ليست محرومة فقط من الديموقراطية، بل هي محرومة قبل اي شيء آخر من الاستقلال، مثلما ان مشكلة لبنان لا تنحصر في ديموقراطية مقيدة بالوصاية، ما ان تتفلت منها حتى تصبح ديموقراطية بدرجة مقبول. ما كان بالإمكان تظهيره هكذا قبل عقد ونصف العقد، لم يعُد هكذا اليوم. التحدّي اذاً مزدوج لبنانياً اليوم. الاستقلال والديموقراطية.
باب الديموقراطية هذا كثيراً ما اختزل في النقاش اللبناني بمسألة البحث عن قانون الانتخاب الاكثر تمثيلية. اعتبر على هذا النحو قانون الانتخاب المُقرّ العام الماضي على انه نقلة نوعية في اتجاه توسيع المدى الديموقراطي للمشاركة الانتخابية. وما لا شك فيه اننا بالفعل امام خلط اوراق جديد على القوى السياسية اللبنانية التي تتهجّى القانون الانتخابي الجديد وتحاول ان تستوعب تداعيات اعتماده على كل منها، وهو امر لو مهما “تفانت” مراكز الاستطلاع، الا انه مرتبط بمحك التجربة، يوم الاقتراع. في المقابل، ليس هناك ما يؤشر الى ان النقاش السياسي، عشية الانتخابات، بإمكانه ان يطرح المسألة النظرية جداً، والعملية جداً جداً ايضاً: هل هناك ديموقراطية في لبنان؟ الى اي حد؟ وان لم تكن هناك ديموقراطية فعلام الانتخابات؟ ام ان الانتخابات، بقانون جديد، هي لتطوير التجربة الديموقراطية بعد تسع سنوات من الانقطاع عن الانتخابات؟
قبل ثلاثة عشر عاماً، حدثت جريمة اغتيال الرئيس الحريري في إطار تخطيط إجرامي لمنع المآل السلمي للحراك الاستقلالي من ان ينتزع مراده بالانتخابات النيابية، ويحقق اكثرية سيادية بالصناديق. عندما حصلت الانتخابات بعد اشهر قليلة على الاغتيال، وبعد اسابيع على الجلاء السوري، حدثت ايضاً في ظل انقسام جمهور 14 آذار 2005 بين تيار العماد ميشال عون وبين قوى 14 آذار، وفي ظل التواجه بين ساحتي 8 و14 آذار. مع الحرب السرية ضد مشروع الاستقلال الثاني، لم تعد معادلة ان لبنان يسترجع ديموقراطيته تدريجياً بعد رحيل الوصاية هي المعادلة الارتكازية. ومع تسارع ظهور التناقضات ضمن هذا المشروع ازداد هذا التعسر وضوحاً، في حين ان قضية سوريا التي كان يؤشر اليها قبل ذلك بالديموقراطية في مواجهة الديكتاتورية، صارت بعد ارتماء النظام في أحضان ايران أكثر فأكثر، ثم التدخل الروسي، والرياء الغربي، وتجريبيات كل الامم، تفتقد الاستقلال الوطني قبل اي شيء آخر.
ثلاثة عشر عاماً يمكن استعادة التشاؤمات التي بدت مبالغة في تخوفاتها، والتفاؤلات المبالغة في استعجالاتها. بقيت مع ذلك ارادة الذهاب بالمسار القضائي الى خواتيمه، مهما تأخّر الزمن، في حين ازدادت كل القضايا الاخرى استفحالاً. تنفّس لبنان الصعداء بعد رحيل جيش الوصاية السورية، لينتقل مباشرة بعد ذلك الى صراع محموم بين مشروع وراثة الوصاية، غير قادر على فرض شروطه رغم انعدام التوازن بينه وبين الآخرين، وبين قوى لم تستطع ان تراكم في تجربة عملها الجبهوي نحو طرح مشروع سلام لبناني داخلي متين مبنيّ على تشخيص مزدوج للمشكلة، فهي مشكلة قلّة ديموقراطية وليس فقط قلّة استقلال وسيادة. فكانت النتيجة، تعطّلاً لتجربة العمل الجبهوي، ومن بعدها تعطُّل الكثير من معاني السياسة.