IMLebanon

14 آذار: حالة إنكار مؤذية

عام 2003 أنجزت المخرجة الأميركيّة إلِين إبستِين فيلمها الوثائقي: حالة إنكار (State of denial). الفيلم يعرض التفاقم الكارثي لمرض الإيدز في جمهورية جنوب إفريقيا عبر شهادات مؤثّرة لمرضى وناشطين. إلا أن العنصر الدراماتيكي في الفيلم هو تركيزه على الخطأ الفادح الذي ارتكبه الرئيس الجنوبْ إفريقي آنذاك ثابو مْبيكي من حيث رفضه اعتبار وجود فيروس HIV في جسد الشخص مسبِّباً لمرض الإيدز. حالة الإنكار هذه أدّت إلى وصول نسبة المصابين بالإيدز وحاملي الفيروس إلى عشرة بالماية من عدد سكان الجمهوريّة وبالتالي إلى كارثة إنسانية على المستوى الوطني.

يبدو أن بعض قادة القوى السياسيّة اللبنانيّة يعيشون “حالة إنكار” ما حيال وباء التوحّش الأصولي الذي تشهده منطقتنا. أقصد بالإنكار ليس عدم الاعتراف بوجود الظاهرة ولا سيما في تجلّيها الداعشي وإنما إنكار أنها القضية الرئيسية التي تواجه المنطقة ولبنان في المرحلة الحالية.

“لا تخافوا داعش” قالها سمير جعجع. هذا معناه لا تتخلّوا عن مخاوفكم السابقة لـ”داعش”.  والواقع أن المسيحيين اللبنانيّين والكثيرين من اللبنانيين الآخرين لا يخافون هذه الأيام إلا من “داعش” وشبيهاتها.

يحدث دائماً في الصراع السياسي أن تدخل معطيات جديدة استراتيجيّة من شأنها أن تضرب الترتيب القائم للأخطار. هذا ما حدث مع قوى 14 آذار التي درّبت نفسها منذ أواخر العام 2004 على منظومة صراع داخلي لبناني إقليمي دولي يشخّص سياسيّاً “حزب الله” في  بروباغانداه على أنه حامل الفيروس العسكري اللادولتي المهدِّد للدولة اللبنانية والذي يمكن أن يأتي بالانهيار. هذا تشخيص يشعر قادة مسيحيّي 14 آذار وفي مقدِّمتِهم السيد سمير جعجع بأنه قد يُصبح مُتجاوَزاً بعد استفحال المد التكفيري في العراق وسوريا وامتداده إلى لبنان أو أصبح مُتجاوَزاً. من هنا “حالة الإنكار” التي يعيشونها. المأزق السياسي الذي يواجهه السيد جعجع هو كيف يصمد ترتيبُهُ السياسي التقليدي للأعداء بما يتلاءم مع مصالحه وتجربته ومزاجه في الوقت الذي يتّجه فيه الشارع المسيحي اللبناني تحت وطأة حدث استئصال مسيحيي الموصل ونينوى إلى تحسّس الخطر الداعشي – النصراوي على أنه الخطر الأكبر إن لم يكن الوحيد.

يلمس يوميا سمير جعجع صعوبة تمرير معادلة المساواة بين “حزب الله” و”داعش”. فـ”حزب الله” بدأ بدايةً داعشية في خطف الأجانب والترهيب الاجتماعي في “النهي عن المنكَر”ورفع شعار إقامة  “الجمهورية الإسلامية” في لبنان. لكن هذه الداعشية انتهت في نهاية الثمانينات مع حصول التسوية السياسية في لبنان وتركيز طاقة الحزب، بقبول وتوجيه من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. نشأت بعد ذلك التحوّل إشكالاتٌ كبرى حول نوع علاقة الحزب المزدوجة بالدولة اللبنانية، داخلها وخارجها، لكن التحديات التي وُلِدت مع انتشار التيار التكفيري على مستوى المنطقة وإدارته لمشاريع انهيارات الدول فرضت ترتيبا جديداً للمخاطر هو الذي يرتبك رئيس “حزب القوّات اللبنانية” ومعه جهازه المباشر في التكيّف معه. وهو سلوك لا يتّصف بالجمود وإنما بالعجز حتى الآن.

من المفيد في هذه المخاطبة أن يعرف  سمير جعجع أن كاتب هذه السطور ينتمي إلى مدرسة في التفكير تعتبر أنه آن الأوان لمراجعة ومواجهة كل الفكر الأصولي المعاصر سُنّةً وشيعة بعد سيطرته على المناخ السياسي والاجتماعي العربي والمسلم منذ بدء تَوَسُّعِ  “الإخوان المسلمين” بعد هزيمة عام 1967 ثم الاندفاعة الكبيرة التي وفّرها لهذا الفكر انتصار الثورة الإيرانيّة، ثم الاندفاعة السلفية الوهابية التي أسفرت عنها الحرب الأفغانية حتى لو  أصبح بعض تياراتها معادياً للمملكة العربية السعودية.

من حق سمير جعجع وتياره أن يعلن أنه يرفض منطق “حلف الأقليات” وأنه من هذا الموقع يتحالف مع القوة الرئيسيّة للسنّة اللبنانيين ومرجعيتها السعوديّة في مواجهة “حزب الله” الإيراني. لكن الانخراط في استراتيجية مواجهة مع الوباء التوحّشي الداعشي لا يعني تبنّي حلف الأقليات وإنما الدفاع عن خطر داهم ومباشر وصل حد استئصال مسيحيي العراق والتهديد اليومي باستئصال مسيحيي سوريا والمزيد من التهميش السياسي لمسيحيّي لبنان. وإذا كانت “داعش” ومثيلاتها أكثر أذىً عددياً للمسلمين مما هي للمسيحيّين فالمفارقة في حالة المسيحيّين وأقليات أخرى أن قمعهم يعني اللاعودة إلى مناطق إقامتهم أي أن الخسارة لا تُعوّض ديموغرافياً في حالتهم بينما الأمر مختلف مع المسلمين.

لا أنطلق من هذا التوصيف لمجرد التحريض أو الإحراج كما يمكن أن يفعل خصوم سمير جعجع معه أو كما يفعل هو معهم في لحظات يعتبرها مناسبة. أزعم أن المسألة بالنسبة لي محض قناعة. وعلينا أن لا نستهين بنظرية احتمال إخلاء المنطقة مما تبقى من تنوّعها. فخلال عشرين عاما بعد تأسيس إسرائيل خسرت المنطقة عنصراً مكوّناً أساسيا وتاريخيا هو العنصر اليهودي الذي كان جزءاً لا يتجزّأ من بنية معظم المدن العربية، وكل المدن العربية الكبرى. وهذه خسارة معاصرة هائلة شاهدناها تحصل أمام عيوننا بعد أن جعل التأسيس الفاجع لإسرائيل التعايش مستحيلاً. لا مجال للمقارنة طبعاً مع حالة المسيحيين الذين هم أكثر عدداً وأكثر انخراطاً وأكثر تأثيرا في تشكيل الشخصية العربية المعاصرة على المستويات الفكرية والاجتماعية والوطنية والسياسية. لكن ولأسباب مختلفة فإن انتشارهم إلى تناقص منذ العشرينات من  القرن المنصرم بين الأناضول والعراق وبلاد الشام وكل ذلك لأسباب متداخلة ومعقدة ليست المسؤولية فيها في بعض الأحيان على المسلمين وحدهم. لكن الآن الأمر مختلف عن كل ما سبقه مع ولادة قوى مثل “داعش” هي أكثر نتاجات المجتمعات المسلمة توحّشاً وفي ظروف دعم لانتشارها لا تزال غامضة ومشبوهة.

لقد أظهرت الكنائس اللبنانية (والمشرقية طبعا) وعياً بخطورة المرحلة قبل نكبة الموصل وبعدها بمستوى عالٍ من المسؤولية والشعور بالحاجة إلى سياسات جديدة. بدت المسألة الوجودية من اختصاص القادة الكنسيين لا القادة المدنيين الذين بقيت ممارساتهم السياسية أسيرة التكتيكات التقليدية.