يمكن لقوى 14 آذار أن تفاجىء نفسها بقدرات أفرادها على الابداع في الخطابات عندما يتعلق الأمر بطرح عوني. في الظاهر، تحضر عدة الدفاع عن الدستور والطائف والعيش المشترك، ولكن الحقيقة تحمل عنوان آخر: «فوبيا ميشال عون»
لا يتعلق الأمر هنا بالميثاق الوطني ولا بالدستور ولا حتى بالمصلحة الوطنية أو العلمانية. ليس هو موضوع نظام ولا مناصفة أو مثالثة أو تعددية أو أكثرية عددية. يتعلق الأمر بشخص يدعى ميشال عون. يَحضُر فتُخرج قوى 14 آذار معجم مصطلحاتها فوراً؛ يغيب فتوضبها مجدداً إلى حين إطلالته التالية. أول من أمس، أعلن عون مبادرة التعديل الدستوري بهدف انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة، ففتح شهية خصومه على الكلام حتى عجز عقل البعض منهم عن اللحاق بسرعة فمه في تعليب الكلمات. النائب فادي الهبر مثلاً، رأى أن اقتراح عون «كسر النظام الديموقراطي البرلماني، وذلك يعني عدم احترام اللبنانيين وطوائفهم ومذاهبهم والذهاب نحو العولمة». يمكن كلمةَ «عولمة» أن تكون مثيرة حتى لو كان استخدامها في الجملة غير مفهوم. يتابع الهبر تصريحه الثاني في غضون 24 ساعة: «وهذا الاقتراح يدغدغ عاطفة المسيحيين للقضاء عليهم من دون وعي، والوعي فقط لسلطته».
يهوى الرجل ختم جمله بعبارات غامضة. مهلاً، الهبر نائب كتائبي عن المقعد الأرثوذكسي في قضاء عاليه، وهو لا يخجل أبداً من سؤال تيار المستقبل الآتي: «لماذا نريد (أي هو وتيار المستقبل وسائر قوى 14 آذار) أن نفتح له (أي عون) باباً وأن نجعل منه إنساناً؟». مهلاً أيضاً، وللعلم، الحزب الاشتراكي جعل من الهبر، بطل لبنان في لعبة البلياردو، نائباً.
بدا واضحاً أمس وأول من أمس، أن قوى 14 آذار غير مستعدة حتى لسماع ومناقشة نقاط مبادرة عون أو على الأقل التفكير بها ثم الردّ عليه. لم يكد ينهي مؤتمره حتى بدأت الأصوات تعلو واحداً تلو الآخر. نائبا القوات في زحلة جوزيف معلوف وشانت جنجنيان على قيد الحياة، ونعم وجدا أخيراً ما يتكلمان عنه ويطلان به عبر الإعلام. مستشار رئيس حزب القوات اللبنانية وهبي قاطيشا، العميد الذي توج مسيرته العسكرية بالالتحاق بالكتيبة 56 في القوات اللبنانية، يتحدث عن «الميثاق الوطني» ونسف عون له! منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار فارس سعيد، حامي قرطبا وكل بلاد جبيل من «الجار الشيعي»، يصبح علمانياً منفتحاً حريصاً على التعايش المسيحي ــــ الإسلامي. النائب فؤاد السعد وجد في المبادرة مناسبة لإعلان مواصفات الشخصية المفترض وصولها إلى بعبدا، وللصدفة كلها تنطبق عليه! وهو للأمانة، يسرّ المقربين منه أن النائب وليد جنبلاط عرض عليه بداية أن يكون مرشح الحزب الرئاسي لا زميله هنري حلو، ولكنه رفض أن يكون مرشح «مسخرة». الكتائب على لسان أحد أعضاء مكتبها السياسي سيرج داغر يرى أن «مبادرة عون ليست بحجم مبادرة لتسمى مبادرة»، اذ ينبغي للمبادرة أن تكون أقله كمبادرة الرئيس أمين الجميّل: «انتخبوني أنا». يدرك داغر أو الكتائب جيداً أن «الرئيس حالياً لا يتمتع بالصلاحيات الموجودة في الأنظمة الرئاسية»، ولكنهم ليسوا في وارد القيام بمبادرة لتصحيح هذا الخلل: «فليقدم عون المشروع ونحن نصوت معه». والحزب وفقاً للوزير سجعان قزي، «سبّاق في انتقاد النظام اللبناني وفي الدعوة إلى سدّ ثغر الطائف»، ولكنه يكتفي بإعلان امتعاضه فقط من دون تقديم حلول أو مشاريع إصلاحية. رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، يتحدث عن وجوب عدم إبداء المصالح الخاصة على المصلحة الوطنية العامة؛ يدعو الكتل السياسية إلى تحكيم ضميرها ويحاضر بالواجبات الوطنية. ويتناسى أنه هو نفسه، يشكل أحد أسباب وصول الوضع إلى ما هو عليه اليوم من تمديد غير شرعي للمجلس النيابي وفراغ رئاسي. قد يفيد هنا تذكيره بمشروع القانون الأرثوذكسي الذي «بصم» عليه في بكركي وأسقطه في المجلس النيابي.
لا تريد قوى 14 آذار الاعتراف بوجود أزمة، أزمة نظام، أزمة توازن، أزمة ثقة، أزمة في التمثيل المسيحي؛ ولا تريد أيضاً أن تسمح لأحد بمناقشتها. الطائف مقدس، لا يجوز تناوله أو اقتراح تعديل بعض الفقرات فيه. ممنوع المسّ بالتوازن الطائفي الحالي، وينبغي لرئيس الجمهورية المقبل أن يستظل به. قانون الستين محبب ويمكنهم إن أحرجوا تبديل اسمه إلى «المختلط». إنكارهم المتكرر لوجود مشكلة مسيحية في التمثيل والتوازن والرئاسة والإدارة، مشكلة في حد ذاتها. يحاول عون البحث عن مخرج ما للأزمة، فتح كوّة في الحائط الرئاسي والنيابي، فينقضون عليه. ليست المبادرة الأخيرة أول الغيث، ولن تكون آخره، سبق أن زرعوا الألغام له في قريطم وبكركي والسعودية والولايات المتحدة وفرنسا. دورهم في هذا السياق محدود، يدفنون المبادرات ويعارضون الحلول من دون أن يقدموا أي مشاريع بديلة. يدعوهم عون إلى تطبيق الطائف عبر إعادة التوازن إلى السلطة. لا يعجبهم ذلك، إعادة التوازن يعني خسارتهم للسلطة، لذلك ممنوع الكلام. يصرخ بوجود أزمة عمرها 25 عاماً، يتهمونه بالانقلاب على النظام. وفي النهاية، يعتلون المنابر للحديث عن ديكتاتورية خصمهم وإرهابه، عن ديكتاتورية الأنظمة والحكام! يمكن الآن فقط فهم تصالحهم الذاتي مع الإخوان، «النصرة»، «داعش» وأخواتها.