يصعب، إن لم يكن مستحيلاً أن يتكرر مشهد ساحة الشهداء الملونة بلون العلم اللبناني. كأن أول الوفود في الساحة وآخرها في الحازمية والنبعة وأنطلياس. لا شك أن “14 آذار” – 2005 كان يوماً مجيداً في تاريخ لبنان. في ذلك اليوم اجتمع اللبنانيون بتظاهرة مليونية، آتين من كل المناطق والطوائف رافعين علماً واحداً هو العلم الوطني، مطالبين بجيش واحد- ما بدنا جيش بلبنان إلا الجيش اللبناني- وبالعدالة والكشف عن المجرمين، مزودين بكتب مقدسة وطقوس دينية أو بمبادئ علمانية أو بأفكار إلحادية، قيادتهم من شجعان وفدائيين مطالبين جهراً بخروج القوات السورية من لبنان، فتحقق ما أرادته الحشود وخرج الجيش السوري.
لم تكن مجرد انتفاضة. بل هي انفجار ضخم، صاعقه اغتيال رئيس حكومة لبنان، والشحنة ظروف حبلى بكل أنواع القهر السياسي والمالي والعسكري المتراكم منذ اليوم الأول الذي حظي فيه النظام السوري بوكالة عربية ودولية تمنحه حقاً حصرياً بالإشراف على تطبيق اتفاق الطائف، هذا إذا لم نقل منذ اليوم الأول لانفجار الحرب الأهلية. قهر تعرض له المواطنون على اختلاف انتماءاتهم السياسية والحزبية والطائفية، وزعماؤهم من الموالين للنظام السوري كما من المعارضين له. يروي جورج حاوي في شريط مصور ومنشور على وسائل التواصل أن اللفظة المفضلة على لسان غازي كنعان، اللازمة التي كان يخاطب بها أتباعه، تحبباً أو في حالة الغضب، كانت: “يا حقير”.
كتبت كثيراً في نقد “14 آذار”، مع أنني لم أتخلف عن مشاركتها في جميع مناسباتها من موقع المتضامن. كنت آخذ عليها تفسيرها الأحداث استناداً إلى نظرية المؤامرة، بإغفالها المخاطر الداخلية وتغليبها الخطر الخارجي على الدوام، مرتكبة خطأ الأصوليات القومية واليسارية التي كانت تحارب استعماراً غير موجود في الأصل، والتي لا يكون خصومها في الداخل خصوماً إلا لأنهم “أعوان” الاستعمار. لهذا السبب ظلت حركة “14آذار” تتعامل مع “حزب الله” على أنه حزب إيراني، ومع فريق الثامن من آذار على أنه وكيل النظام السوري في لبنان.
صحيح أن علاقة “حزب الله” بإيران علاقة وثيقة، فهو خرج من رحمها، وصحيح أن فريق الثامن من آذار هو من أتباع النظام السوري ومن أدواته، لكن الصراع مع هذا أو ذاك لا يندرج في معركة التحرر الوطني، أي في المعركة لنيل الاستقلال. من هنا كانت عبارة الاستقلال مصدر قوة للانتفاضة مثلما كانت نقطة ضعفها ومقتلها في الوقت عينه.
استقلال؟ عمّن؟ لا يكون استقلال إلا عن مستعمر، وهذه عبارة لا تنطبق إلا من باب التشنيع على النظام السوري الذي لم تستدرجه الجبهة اللبنانية وحدها بل ومعها التجمع الإسلامي، وفي وقت لاحق أذعنت له القوى المعترضة بعد حصوله على مباركة عربية ودولية شاملة فصارت تنسق معه راضية أو مرغمة. وحدها جماهير “14 آذار” من دون قياداتها خرجت عن هذا الأجماع، لكن خروجها من دون قيادتها أوقعها في العثرة الأولى، فهي رأت أن الانتفاضة لا تكتمل إلا بالحل الداخلي فيما توهمت القيادة أن “التحرير” يكفي بعد أن يصبح أمراً واقعاً، وسعت وراء تسوية داخلية تحفظ لها مصالحها ما بعد التحرير. أدى ذلك إلى تراجع دراماتيكي في صفوف الانتفاضة مترافقاً مع سلسلة من الاغتيالات.
“14 آذار” ونظرية المؤامرة
كان يمكن أن تشكل حركة “14 آذار” اللبنانية باكورة الربيع العربي. إلا أن الإصرار على الخطر الخارجي ونظرية المؤامرة جعلها واحدة من إرهاصات ما لبثت، بعد سنوات، أن انفجرت في تونس، كثورة لا كانتفاضة، بفعل صاعق بوعزيزي. هذا الارتقاء من انتفاضة إلى ثورة يشير إلى تمرد على نظرية حركة التحرر. لأول مرة تنهض شعوب الأمة العربية ضد قيادة كانت متمركزة في الجمهوريات الوراثية وأنظمة الاستبداد التقدمي. ألم يكن من الأولى أن تقوم الثورات ضد الأنظمة الوراثية التي لم يعد لها وجود في العالم خارج نطاق الأمة العربية؟ بلى لكن الثورة قامت ضد حركة التحرر لا ضد سواها، ولهذا غابت عنها شعارات العداء للإمبريالية والصهيونية والاستعمار وتقدم شعار وحيد هو الدولة الدستورية.
ما حصل في 17 تشرين هو ثورة وليس انتفاضة (راجع مقالاتنا العديدة تأكيداً على هذه الفكرة في “نداء الوطن”). الفارق بين اللفظتين ليس لغوياً بل هو اختلاف جذري في النهج والرؤيا والبرنامج، بين مواجهة خطر داهم ومواجهة خطر غير داهم. الخطر على لبنان في خريف 2019 لم يكن يتمثل بالتدخل السوري أو الإيراني ولا بأي تدخل آخر، على ما لأي تدخل من تأثير سلبي، بل هو خطر الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي، انهيار الدولة والوطن. وما كان للعوامل الخارجية أن تفعل فعلها السلبي لو لم تجد لها سنداً داخلياً استدرجها ثم استند إليها، بدءاً من استدراج القوات السورية عام 1976. الخطر الداهم على لبنان، في لحظة 17 تشرين هو خطر سلطة الفساد والإفساد وانتهاك الدستور والقوانين، سلطة الميليشيات والمافيا التي نهبت المال العام والمساعدات الخارجية فاغتنت وأفقرت الدولة وهددتها بالإفلاس.
انخرطت في صفوف الثورة قوى وقيادات متحدرة من انتفاضة الاستقلال كالقوات اللبنانية والاشتراكي والمستقبل، وأخرى من صفوف الممانعة كالحزب الشيوعي، حاملة معها احتمالات خروجها من تلك الصفوف إذا ما استمرت تضع الثورة في سياق حركة التحرر من الاستعمار أو الاحتلال أو التدخل الخارجي. أهم درس مستخلص من التجربة اللبنانية هو أن مواجهة الأخطار الخارجية بغير الوحدة الوطنية تفضي إلى الحروب الأهلية، وأن ضمانة الوحدة الوطنية هو الدولة والقانون.
انتفاضة الاستقلال والثورة
حسناً فعلت قيادات انتفاضة الاستقلال ببقائها بعيداً من إدارة شؤون الثورة، وبإجازتها لمنتسبيها الانخراط تحت راية العلم الوطني دون سواه من الأعلام الحزبية، وذلك لتجنب خطأين اثنين ارتكبتهما تلك القيادات خلال الانتفاضة. الأول سعيها وراء تسوية مع خصومها من أتباع النظام السوري أفضت إلى كبح جماح الانتفاضة وإجهاضها، والثاني معالجتها الأزمة بمصطلحات طائفية لا بلغة وطنية ودستورية، عبرت عنها المعادلة التالية: “النظام السياسي اللبناني قام على التنسيق والتكامل بين الطوائف الثلاث الكبرى: المارونية والسنية والشيعية. وكان الاختلال يحدث عندما ينشأ صراع بينها” وهي معادلة صاغها رضوان السيد (مقالة منشورة في موقع أساس، الثلثاء17-3)، وكانت قد عملت بموجبها أحزاب 14آذار، فضلاً عن قامات وطنية غير حزبية من بينها الراحل سمير فرنجية.
الاستمرار في الثورة مضمون فقط لمن يقتنع بأن الثورة ليست من سلالة حركات التحرر الوطني، بل من سلالة الثورة الفرنسية، وبأن الثورة لا تبنى على معادلات طائفية بل على الدستور والقانون والمؤسسات، ولا على تسويات تحاصصية بل على الديموقراطية والكفاءة وتكافؤ الفرص. من يخرج عن هذه المبادئ الثلاثة لن يستطيع المحافظة على موقعه في صفوف الثورة.