«يا فؤادي… رحم الله الهوى كان صرحًا من خيال فهوى إسقني واشرب على أطلاله وارو عني طالما الدمع روى كيف ذاك الحب أمسى خبرًا وحديثًا من أحاديث الجوى وبساطًا من ندامى حلم هم تواروا أبدًا وهو انطوى» (ابراهيم ناجي).
غريبة أنشودة الأطلال شعرًا ولحنًا، فهي تبدو كتمثال أبي الهول الشاهد على العصور رغم أنفه المجدوع، أو كمعبد أبي سنبل الصامد أمام مزاجية نهر النيل، ليبقى ويروي حكايات “رع” و”حورس” و”ايزيس” و”اوزيريس”. ابراهيم ناجي في قصيدته يروي مأساة الحتمية، التي تأتي في كثير من الأحيان، لتعلن نهاية قصص تجتمع فيها السعادة المؤلمة مع الألم السعيد، ومع ذلك تأخذنا هذه النهاية بالمفاجأة، على الرغم من معرفتنا المسبقة بأنّها آتية!
في قصيدة لجاك بريل عنوانها “أمن المستحيل أن نموت وقوفًا؟” يقول: “وهكذا نجثو أمام كل حب جديد… مؤمنين بأنّه الأول وأنّه الأخير… وأنّه الحقيقة المطلقة”. هكذا كان نهار الرابع عشر من آذار سنة 2005، يوم يشبه الحب الجديد الذي يبهرنا بجماله فنظن أنّه الحب الأخير، رغم عشرات تجارب الحب المسفوحة السابقة، لأنّه في تلك اللحظة، مثل الأمل بالفرح العظيم بعد اليأس حتى من الأمل.
الرابع عشر من آذار لم يكن لا القادة ولا الأحزاب ولا حتى عدد من النواب أو الوزراء أو الحكومات ولا المناصفة الظالمة والمثيرة للشفقة في الوظائف العامة، لأنّه إن كان حلم المستقبل هو على صورة الماضي الذي ثرنا عليه فهو مجرد مشروع يأس جديد. الرابع عشر من آذار ليس الاجتهادات الركيكة لكل قائد على حدة، وليس استغفال القائد للآخر في صفقات جانبية، يظن أنّه يكسبها بالتذاكي والحربقة على حساب رفاق الدم.
الرابع عشر من آذار ليس لاعبًا في السياسة ولا مشروع سلطة، ولا جزءًا من حلف إقليمي أو مؤامرة دولية، وهو بالتأكيد ليس ورقة في جيب قادة اعتلوا المنابر أثناء دفن كل شهيد جديد سقط على طريق الجلجلة الطويل، ليؤكّدوا “بكلمات ليست كالكلمات” الاستمرار في درب الشهادة، فيعود الناس إلى بيوتهم لا شيء معهم إلّا كلمات!
الرابع عشر من آذار هو ضمير بضعة ملايين من اللبنانيين ورثوا أرضًا وتاريخًا مثقلين بالهواجس والهموم والدم والدموع، فقرّروا الانطلاق من جديد، من دون أفكار مسبقة ولا أحقاد موروثة، لبناء بلد لأبنائهم يليق بأحلامهم وقدراتهم. بلد متحرّر من الأوهام والأساطير، يعطي الفرصة للمستحق ويرعى الضعيف، بلد يقدّر المبدع ويرعى العادي، بلد يعطي الأمل من خلال الجهد والعمل، لا من خلال الدم والدمار.
نحن قد نتفهّم بعد الاجتهادات المختلفة، وأحيانًا المتناقضة، بين من كانوا قيادات الرابع عشر من آذار، فهي تعبير واضح عن أننا مواطنون أحرار لا يسوقنا قائد من وراء مذياع يصدح بصوته صعودًا ونزولًا من على منبر لا يعرف أحد أين مكانه، ووراء شاشة عملاقة تحف بها الجموع هاتفة بحياة القائد وموت منافسيه! ونفهم أننا لا ننحر أبناءنا على مذبح الأساطير، ولا يحكمنا دستور يؤلّه بشرًا متعطشين للسلطة المطلقة، ولو على حساب أرواح الملايين. لكن كل ذلك لا يعفينا من مسؤولية التشاور والتنسيق مع بعضنا البعض، ولا يسوغ لنا نكاية الآخر أو استغفاله أو وضعه في موقع التابع القابل القانع، والأهم، لا يحق لنا تخوين الرفاق لمجرد اختلافهم معنا بالاجتهاد. أقول هذا، لعلّ الذكرى تنفع ذوي الألباب، فما قتل الرابع عشر من آذار لم يكن الثامن من آذار ولا وحشية الاغتيالات ولا سطوة السلاح ولا المال، فكلها كانت تزيدنا إصرارًا وثباتًا! بل كان قادة أحزاب الرابع عشر من آذار عندما سعى كل واحد منهم ليكون قائد الأمّة، أو أن ينادي كل حزب “أنا أمّة”. ما قتل الرابع عشر من آذار هو تحوّل القادة ومشاريعهم إلى آلهة جدد يقبلون الطاعة العمياء المطلقة، ويخوّنون من يقول رأيه وينتقد المسار ويسعى لتصحيحه. ما قتل الرابع عشر من آذار هو تشبّه قادة أحزابها بقادة ونهج الثامن من آذار والأنظمة القمعية التي تمثلها في لبنان، في حين أنّ الناس قامت لتثور على القمع وخنق الحرّيات.
اليوم، بعد مضي حوالى العقدين على ثورتنا المجيدة، ندعو ناس الرابع عشر من آذار أن يعودوا إلى الثوابت وتجديد الأمل، من خلال اجتماعهم على ثوابت وإرساء قاعدة التوافق والنقاش، قبل الذهاب إلى المغامرات كل واحد عكس الآخر. الثوابت هي ثلاث، أولها الدستور الذي يجمعنا في لبنان واحد لا تشكيك في وحدته ولا ندم على تركيبته، الثاني هو الالتزام بمنظومة المصلحة العربية الراعية للبنان والضامنة لاستقراره وتعدديته الدينية، والثالث هو القرارات الدولية والسعي لتطبيقها من دون مواربة أو تجاهل.