Site icon IMLebanon

بين 14 آذار و17 تشرين

 

اقتضى الزمن مرور 15 عامًا على عهد الوصاية السورية في العام 1990 حتى حصلت ثورة الأرز أو انتفاضة 14 آذار في العام 2005. واقتضى الزمن أيضًا أن يمرّ 15 عامًا آخر حتى تحصل ثورة 17 تشرين. بين ثورة 14 آذار وثورة 17 تشرين فارق زمني كبير ولكن هناك قواسم مشتركة كثيرة واختلافات كثيرة تتراوح بين بناء الأمل وبين خيبة الأمل. ومع الإحتفاظ بالرغبة بالتغيير وصولًا إلى الدولة العادلة السيّدة والمستقلّة كانت بينهما مواجهة واحدة مع “حزب الله”.

 

خمسة عشر عاما فقط فصلت بين استقلال لبنان وولادة الجمهورية الأولى في العام 1943 وبين ثورة 1958 التي حاولت أن تلغي امتيازات الجمهورية الحديثة وتلحقها بدولة الوحدة التي قامت بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر. خمسة وسبعون يومًا فقط فصلت بين إعلان الوحدة في 23 شباط 1958 وبين اندلاع الثورة في 8 أيار التي أسّست بعد انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية لتسوية بين مفهوم التسليم بالوصاية المصرية وبين مفهوم السيادة الداخلية وذهاب شهاب نحو بناء المؤسسات.

 

مرّة كلّ 15 عاماً

 

هذه التسوية لم تعش أكثر من 17 عاماً. انفجرت في 13 نيسان 1975 عندما حاولت الوصاية الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات أن تصادر السيادة الداخلية بعد ستّة أعوام فقط على محاولة تفادي الصدام بتوقيع اتفاق القاهرة في العام 1969 وبعد ثلاثة أعوام على مواجهات أيار 1973 بين الجيش اللبناني والمسلحين الفلسطينيين التي توقفت بسبب تهديد النظام السوري للبنان.

 

بعد 15 عاماً من الحروب كان من المفترض أن ينقل اتفاق الطائف لبنان إلى تأسيس مرحلة جديدة من السلم الداخلي الذي يمكن أن يتيح إعادة بناء الدولة والمؤسسات ولكن النظام السوري الذي كان يجب أن يبدأ جيشه بمغاردة لبنان في أيلول 1992 عمل على الإنقلاب على الطائف وتأكيد سيطرته التامة على لبنان من خلال إقامة نظام أمني سياسي يدين له بالعمالة والولاء. وبعدما كان لبنان يُدار منذ العام 1958 من بيت السفير المصري عبد الحميد غالب في بيروت ومن مقر قيادة ياسر عرفات في الفاكهاني منذ العام 1973 صار يدار من مقر المخابرات السورية في عنجر منذ العام 1990.

 

ثورة في ظل عهد الوصاية

 

بينما كان النظام السوري يعتقد أن احتلاله لبنان بات مؤبداً كانت تنمو من تحت أرض عهد الوصاية بذور الرغبة بالتحرّر منه. منذ أطلق البطريرك صفير نداء المطارنة الموارنة في 20 أيلول 2000 تم وضع حجر الأساس لانتفاضة الإستقلال الثاني. هذا الحجر كان المدماك الذي قامت عليه أحجار أخرى إلى الحد الذي يمكن معه القول إن انتفاضة 14 آذار حصلت قبل 14 آذار. حصلت عندما اتخذ مجلس الأمن الدولي القرار 1559 في 2 أيلول 2004 الذي طالب بانتخابات رئاسية وفق المقتضيات الدستورية وبانسحاب الجيش السوري من لبنان وبنزع سلاح حزب الله. بدأت ثورة الأرز مع محاولة اغتيال الوزير مروان حماده في أول تشرين الأول 2004 ومع إعلان الرئيس رفيق الحريري عزوفه عن قبول تسميته رئيساً مكلفاً إعادة تشكيل الحكومة في 20 تشرين الأول. ولأنّها بدأت على هذا النحو بدأ التحضير العملي لاغتيال الرئيس رفيق الحريري الأمر الذي نُفّذ في 14 شباط 2005. انتفاضة الشارع والقيادات السياسية والدينية المعارضة لعهد الوصاية ضد عملية الإغتيال يوم الإغتيال ثم في يوم التشييع كانت صورة مصغّرة عمّا حصل في 14 آذار. لقد استطاع اغتيال الرئيس الحريري أن يكسر حاجز الخوف الذي كان لا يزال يهيمن على الحياة السياسية في لبنان وبعدما كان النظام السوري اعتقد أنّه حقق الهدف من خلال التمديد للرئيس أميل لحود ولكن ما حصل كان عكس ذلك.

 

حزب الله وتعطيل الثورة

 

المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان كانت عنوان استعادة السيادة وسلطة الدولة للعودة إلى بناء دولة المؤسسات. في 5 آذار 2005 أعلن رئيس النّظام السوري بشّار الأسد قرار سحب جيشه من لبنان للإنتقال إلى مرحلة الدفاع عن نظامه من داخل سوريا. حاولت القوى التابعة له الحؤول دون سحب جيشه من خلال تظاهرة الشكر لسوريا في 8 آذار التي خطب فيها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في ساحة رياض الصلح ولكنّ الردّ كان أكبر وأعظم في 14 آذار.

 

ثورة 14 آذار قامت تحت شعار استقلال 2005. وكانت لها أهداف واضحة تقوم على مبدأ استعادة السيادة والحرية والإستقلال واستطاعت بدعم سياسي وديني وحزبي أن تلتحم مع الحشد الشعبي الذي كان فاض اعتراضاً على ممارسات عهد الوصاية وطريقة هدم الدولة والمؤسسات. هناك في ساحة الشهداء وفي ساحة رياض الصلح توحدت رايات الأحزاب تحت راية واحدة هي العلم اللبناني. أتى الناس من مناطق بعيدة ومختلفة ومن تيارات وأحزاب بعيدة ومختلفة ليلتقوا على مطلب واحد دولة سيدة حرة مستقلة بكل ما تتضمنه من معانٍ تشكل انقلاباً على دولة عهد الوصاية ولذلك لم يكن من السهل الوقوف في وجه هذه الثورة فاستقال رؤساء أجهزة أمن عهد الوصاية واستقالت حكومة الرئيس عمر كرامي آخر حكومات ذلك العهد وفشلت محاولة إعادة تسميته وبدا المشهد السياسي واضحاً من خلال الإنتقال إلى عهد جديد. حكومة انتقالية برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي وانتخابات نيابية أعطت ثورة الأرز أكثرية نيابية أهّلتها لاستلام السلطة ولتشكيل حكومة جديدة تعكس هذا التوازن. ولكن المواجهة الأساسية بعد ذلك كانت مع “حزب الله” الذي تولى مسؤولية وراثة دور عهد الوصاية.

 

لم تكن قوى 14 آذار تملك أدوات المواجهة مع الحزب ولا كان الحزب يملك القدرة على إعادة الزّمن إلى الوراء. استمرّ مسلسل الإغتيالات ولجأ الحزب إلى المهادنة عبر تسويات المشاركة في الحكومة ولكنه فشل لاحقاً في منع إسقاطها والحؤول دون قرار إنشاء لجنة التحقيق الدولية ثم المحكمة الدولية. في 14 آذار 2006 كانت قوى 14 آذار في اقوى إطلالة من ساحة الشهداء بوجوهها السياسية وحشودها الشعبية. بعد حرب تموز بدأت موازين القوى تتبدّل من خلال قرار الحزب خوض المواجهة الداخلية بالقوّة التي حاصر من خلالها السراي الحكومي ثم نفّذ عملية 7 ايار 2008 التي شكلت نقلة نوعيّة في الصراع مع قوى 14 آذار. استطاع أن يعطل الإنتخابات الرئاسية بعد انتهاء ولاية الرئيس لحود وأن يحقّق المشاركة المعطِّلة في الحكومة بعد انتخاب الرئيس ميشال سليمان بعد تسوية الدوحة. ولكنه فشل في تأمين الأكثرية النيابية في انتخابات 2009.ثورة ثانية بعد 15 عاماً

 

صحيح أن قوى 14 آذار احتفظت بأكثريتها الشعبية والنيابية ولكنها لم تستطع أن تحكم وخرجت تالياً من الساحة إلى الصالات بسبب الخوف من التهديد الأمني الذي كان الحزب أكثر قدرة على التحكم به. وهذا ما ترجم من خلال انسحاب الوزير وليد جنبلاط من 14 آذار في آب 2009 والبقاء في خط الوسط وتسمية الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة بعد استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري بعد استقالة وزراء حزب الله وحلفائه منها.

 

على رغم انغماس الحزب في الحرب السورية منذ 15 آذار 2011 لم يترك الساحة اللبنانية. كان يقاتل على أكثر من جبهة في العراق واليمن أيضاً. وبدل أن تؤدّي التسوية الرئاسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية في 31 تشرين الأول 2016 إلى تصحيح مسار الدولة والمؤسّسات وإنقاذ الوضع الإقتصادي والمالي ذهبت الدولة إلى الإنهيار الذي أدى إلى انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.

 

هذه الإنتفاضة حصلت، كما ثورة 14 آذار، تحت راية العلم اللبناني ورفعت شعارات السيادة والحريّة والإستقلال وإعادة بناء الدولة والمؤسسات واستعادة القرار ومنذ الأيام الأولى وقف “حزب الله” ضدّها. صحيح أن القوى السياسية التي كانت وراء ثورة الأرز غابت عن الصورة والواجهة إلّا أّنها كانت في الساحات أيضا. ما لم تستطع أن تحققه ثورة الأرز جاءت ثورة 17 تشرين لتعيد المناداة به ولترفعه شعارات لها. بعدما اعتقد كثيرون أن ثورة 14 آذار ماتت وانتهت كانت تولد من جديد بعد 15 عاما. وكأن هذا المدى الزمني بات من المسافات الفاصلة بين المحطات الفاصلة في تكوين الحياة السياسية في لبنان. ومن سخرية القدر أن تكون المواجهة ذاتها في الحدثين مع “حزب الله” الذي وقف ضد التغيير ولو كان الثمن الإنهيار بدل أن يكون بناء الدولة على أسس جديدة ومبدئيّة تقوم عليها الدول القوية في العالم كله. وكان ينقص البلد مواجهة من نوع آخر مع فيروس كورونا. ثمة ثورة يجب أن تتجدد قبل أن تضعف ثورة 17 تشرين. ثورة لمواجهة الفيروس الصحّي وثورة لمواجهة المرض الذي يحول دون بناء الدولة ضد الدولة التي باتت عاجزة عن مواجهة الإنهيار الصحي والسياسي والإقتصادي قبل أن يكون قدر لبنان واللبنانيين انتظار خمسة عشر عامًا أخرى من أجل أن تولد ثورة جديدة قد لا يأتي زمانها. ولكن بين 14 آذار و17 تشرين ثمة اتجاه واحد للتاريخ لا بدّ من أن يصل في النهاية إلى الهدف.