بعد اثنين وأربعين عاماً على ١٦ آذار بقي لدي القليل من الحياة والوعي والذاكرة مع تلاشي الطموحات والاحلام، بعد مسيرة طويلة مليئة بالنكبات والنكسات والانهيارات والتصدعات والخيبات العامة والخاصة، ومع ما تبقى من نقاء البدايات من بعلبك المدينة العريقة ونسيجها المتأصل بالمودة والصلابة ، الى المرج القرية الطموحة والأنهر والسهول والبيادر بعد الحصاد، مع ما تركته شراكة البدو وباديتهم وقطعانهم وترحالهم في الشتاء والصيف، الى انتظارات ساعي البريد ورسائل الأجداد في عالم الاغتراب، مع رحيق العروبة يفوح في الوجدان ويحرك هوى الحرية والعدالة، ويأخذني الى يسار المواجهة مع التخلف والتقوقع والاستعلاء، إنها البدايات التي لم يقتلعها عنف او طغيان، وبين البدايات والنهايات طريق شديد الاتساع والانسياب بلا خجل او رياء.
انا ورفاقي البسطاء الافراد حملنا كل تلك الأثقال، وأتينا من بعيد رغم وعورة الطريق والمعوقات، لنذوب في مجتمع المدينة والافكار الخلاقة والاهداف النبيلة بكل شجاعة التجاوز والتحلل من موروثات التقوقع والعصبيات القبلية والطائفية، وممتلئين بحتمية تغيير النظم والاتجاهات، ايام كانت بيروت تتسع لكل الأحلام والطموحات والأفكار من اليمين واليسار، تلك المدينة التي كادت ان تنعتق من ذاتها وتبلغ اليوم الموعود بالتجدد الدائم والازدهار قبل أن تُفخخ بالعنف والاحقاد والارتداد.
كنت ورفاقي البسطاء من قوات المشاة الذين حسموا كل المعارك في التاريخ، ولم يتحدث عنهم احد الا كونهم مجرد اعداد، وكأنهم ليسوا من البشر او أفراد ولديهم مهارات وقيم وطموحات واحلام، كنت من المشاة في بيروت لا مجوقل ولا طيار، الفرد في المشاة إنسان في كل الازمنة والمراتب والمواقع، ينتمي للطبقة الأوسع من الناس التي تشكل في اجتماعها جسد المجتمع وقلبه النابض بالحياة ومصدر الطاقة التي تنير الطريق والقوة التي تدفعك نحو التقدم والانسياب، وحين يتفرق الناس المشاة يسود الظلام والضياع والاستبداد ويبقى من استخف بالناس وحيدا بالعراء.
الناس الطيبون لا يتوقفون ولا يتعبون وقوتهم تنبع من قناعاتهم وشغفهم بالأفضل في الحياة، والناس المشاة يتوالدون ويتجددون بالموت والحياة حقبات وحقبات، ويشعرون بالألم حين يسقط الرفاق بالقتل او الانحراف او الخيانة او الادعاء، ولا يخلطون بين الخاص والعام بالصعود الى الطبقات الأعلى ويعرفون ان الطريق الصحيح هو في التقدم نحو الامام، حيث يجب ان تكون النخبة والقادة الاصحاء في مواجهة المخاطر والصعاب واستكشاف المسارات الصحيحة الى حيث الاستكانة والامان.
يوم ١٦ آذار ٧٧ أُصبت مع الناس بالرمز وبالحلم وبتعثر المسار المتراكم عبر أجيال، وأدركنا شؤم القادم من السنوات وتفرقنا كل في اتجاه، هناك من حمل السلاح، وهناك من انكفاء واستكان، وهناك من استسلم للعدم واحترف العبث والاستلشاء، كان ١٦آذار يوماً بعشرات السنوات، ويوم ١٤ شباط ٢٠٠٥ أُصبتُ ايضا مع عموم الناس بفظاعة الارتكاب باستهداف بساطة التسامح والعطاء مع كل الوطن وكل الناس، وشعر عموم الناس بمرارة الاستهداف وبعمق الجرح الذي فتح الجراح على الجراح فتقاطر ضحايا الارتكابات والاغتيالات والمظلوميات والاستهدافات والإقصاءات والمقاطعات والاعتقالات والغاضبين والمقاطعين والطموحين واجتمعوا في نقطة كثيفة الضباب وشديدة الغموض والالتباس، ثم كانت شجاعة الإقدام والحكمة في ٢٨ شباط التي فتحت ثغرة في جدار الطغيان والاستعلاء، واستشعر الناس القدرة على الاجتماع وتلاقي المدن مع الأرياف وإن ما كان مستحيلا عام ٧٧ اصبح ممكناً الآن،وخرج الناس المشاة ليقولوا بالفم الملآن نعم نستطيع وكان ذلك التداخل العميق بين ١٦ و١٤ آذار وما بينهما.