لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عظمة القديس مارون، تتجلّى في جماعته التي سُميت كنيستهم على اسم قديسها، في سابقة غير موجودة في حاضرة الكنائس الشرقية والغربية.
القديس مارون القورشي السرياني أجمعت المصادر الكنسية والتاريخية، على أنه كان قد وُلد في أوائل القرن الرابع، والثابت أنّ تاريخ انتقاله كان في السنة 410 م، وقد كتب حياته اثنان من أشهر اللاهوتيين في زمنه، هما القديس يوحنا فم الذهب بطريرك أنطاكيا، الذي كان منفياً في مدينة كوكوزا، في بلاد أرمينيا سنة 405 م، وكذلك مطران قورش اللاهوتي الشهيد تيودوريطس، الذي أسهب في الكلام عن مارون، مسمياً إياه مارون الالهي، راوياً عن العجائب التي كان يقوم بها إذ كان لا يشفي أمراض الجسد فقط، بل أمراض النفس أيضاً، وكان شخصية غنيّة بالله، وذي غيرة رسولية في خدمة الناس.
وكان القديس يوحنا فم الذهب قد أرسل رسالته الشهيرة الى مارون الكاهن الناسك، وهي الرسالة السادسة والثلاثون في رسائل القديس المذكور والمنشورة في مجموعة «الآباء اليونان»، ومنها شهادة من أوضح الشهادات، فالبطريرك الكبير كان يعرف الكاهن الناسك مارون السرياني، معرفة شخصية، ويقدّر تقواه، ويطلب اليه من منفاه أن يذكره في صلواته.
وقبل أن يبدأ مارون نشاطه الرسولي، صعد ونسك على قمة جبل، يُعرف اليوم بجبل سمعان بين أنطاكيا وحلب، طلباً للصمت والصلاة والتأمل على مثال مار بولا أوّل النساك، ومار انطونيوس الكبير أب الرهبان، وكان مارون شهيداً حياً بتجرّده وممارسته الكفر بالذات، حاملاً الصليب وراء الرب، في مأكله وملبسه، وصومه.
وكان يتدثّر بجلد الماعز إتقاءً من المطر والثلج. وأخذ صيته ينتشر، عندما بدأ يشفي الأجساد من أمراضها، والنفوس من عاهاتها مثل البخل والشراهة والغضب والكسل والخمول والكفر.
لم يكن مار مارون ناسكاً فحسب بل لاهوتياً كبيراً وكاهناً رسولاً الى تلك المنطقة، منطقة جبل نابو التي اتخذتها الوثنية معقلاً حصيناً، واعتصمت بها. فعمل على هداية أهلها بالتبشير واجتراح المعجزات وتطبيق تعاليم يسوع في حياتهم. وكان لعمله ذاك الاثر الاقوى والوقع الاشد لاجتذاب الوثنيين الى المسيحية.
وبعد زمن من العزلة، عاد مارون وسلك نهج التبشير بين الناس، حيث قرّر الذهاب الى الأهالي في القرى الجبلية الذين يتكلمون الآرامية-السريانية، معلّما إياهم، يشاركهم حياتهم اليومية وصلواتهم. علّم مارون الجموع كيفية عيش الحياة المسيحية، علّمهم الرجاء، وأهداهم الى الانجيل.
وفي هذه الفترة، تكاثر تلامذة مار مارون، وتعاظمت أعدادهم، وأصبحوا مجموعة مهمة لها كلمتها، تأثيرها ومواقفها. وكان أتباع مارون في الساحة يدافعون بحقّ عن الإيمان القويم، إله حقّ وإنسان حقّ، ويردعون البدع، خصوصاً البدعة الآريوسية القديمة بوجودها الشعبي في تلك النواحي. ومن هنا تكوّنت النواة الأولى للشعب الماروني، والكنيسة والأمة المارونية.
عظمة وفرادة القديس مارون، لم تكن لرتابة حياته النسكية والتبشيرية، بل بالتفاف الناس حوله وذلك بفضل ذاك الإشعاع الروحاني الذي يميز الله مختاره. وقد ألّف تلاميذه وأتباعه «جماعة مارون»، التي انبثقت عنها الكنيسة السريانيّة المارونية التاريخية، المستمرة بزخم، المنتجة للقديسين، الفائضة بالشهداء حتى زمننا هذا.
من تلال قورش وسهيل أفاميا، الى جبال لبنان ووديانه كانت المسيرة، في الجفاف وبرد الشتاء وشوك الحقول والحصار والفقر والجور… مسيرة حوّلت «جماعة مارون» الى مجموعة، فمجتمع، فشعب يبحث عن بناء وطن وبنيه.
ولبنان بالنسبة الى هذه الجماعة كان مناهم وغرامهم، مهدهم ولحدهم، علمهم وحضورهم وشخصيتهم، حريتهم ورفضهم. فأعملوا سواعدهم في صخوره، واستصلاح ما تيسّر من أراضيه الجبلية الصعبة، وماتوا في سبيله، مدافعين عن ثغوره، ليعيشوا عليه جوهرهم وحرّيتهم، رافضين الانتقاص من كرامة إنسانهم، فرفضوا، فيما رفضوا أن يحيوا ذميّين. وهذا الرفض جرّ عليهم المتاعب، ولا يزال.
وفي الواقع، ما كان الموارنة إلّا أوفياء لجوهرهم، وهذا الوفاء الممزوج بالرفض والصلابة، جعلهم مطارَدين ولا يزالون، من الأقربين والأبعدين.
طاردوهم لأنهم أحبوا الله وانغرموا في السماء.
طاردوهم لأنهم أبوا الذوبان والرضوخ.
طاردوهم لأنهم عشقوا التراب فحوّلوه الى جنائن وبساتين.
طاردوهم منذ ستة عشر قرناً، وما زالوا يفعلون.