عام إنقضى على “17 تشرين” 2019، كان الأصعب على اللبنانيين. أطاح بأمانهم الإقتصادي والمعيشي بالمعنى الحرفي للكلمة، وزاد في تفاقم نتائجه الكارثية إجتياح فيروس “كورونا” في غياب كامل لدولة ومؤسسات.
عام إنقضى وخلَّف أسئلة تتعلّق بمفاعيل هذا التاريخ الذي لا يزال تحديد ماهيته مبهماً. أهو ثورة أو إنتفاضة أو إقتصرت مفاعيله على الحراك الشعبي؟
الأكيد أنّ إنطلاقة هذا التاريخ كانت جذّابة بمواصفات خلّاقة دمغت مراحله الأولى. وتحديداً بعد إستقالة الرئيس سعد الحريري.
فالنشاطات التي نظّمتها فعاليات التحرّك الشعبي زلزلت مفاصل المنظومة السياسية، ودفعت من يديرها ويتحكّم بها في الأيام الأولى التي تلت هذا الحدث إلى إدانة المتظاهرين والمعتصمين علناً، وإتّهامهم بأجندات خارجية، وذلك في الردّ العنيف على شعار “كلّن يعني كلّن”.
وبالطبع، إستيقظ الإبداع التدميري لمدير المنظومة، بغية صرف إنتباه الشعب عن المطالبة بحقوق الحدّ الأدنى من حياة كريمة. فكان العمل المُبرمج لسلب هذا الشعب حتّى الهواء الذي يتنفّسه.. والآتي أعظم على ما يبشّرنا به الإبداع التدميري.
بداية، كانت غزوات شباب الخندق الغميق الذين أغاروا على التحرّك السلمي، لا سيّما بعدما استوعب مروحة واسعة من اللبنانيين، على اختلاف إنتماءاتهم ومشاربهم.
ثمّ كانت لعبة الدولار، وهدفها كان سحب المتظاهرين من الشارع ليستجدوا تعب عمرهم من المصارف. ونجحت اللعبة، فتشرذم المحتجّون وتشظّت مطالبهم، وصولاً الى العجز التامّ حيال الأزمات المتلاحقة التي تطاول الغذاء والدواء والأمن.
ثمّ كان الرصاص المطّاطي والتوقيفات العشوائية وقمع الحرّيات واللعب على الأوتار الطائفية.. وحكومة لم تشهد لها الحياة السياسية مثيلاً.. كأنّها عِقاب لمن أراد دولة مؤسّسات وشفافية ومكافحة فساد.. وصولاً الى جهنّم التي نتلظّى بنارها.. ولا من مجير.
ومع إنطفاء الشمعة الأولى لـ”17 تشرين”، لا نعلم إذا ما كان يتوفر لدى اللبنانيين شموع أخرى تدفعهم الى الإستغناء عن لعن الظلام وقلب الطاولة على من يتحكّم بهم ويشويهم في جهنّم.
الصورة قاتمة ومعتمة، والأزمات نسل ملعون ونشيط، تخبط اللبنانيين على رؤوسهم فلا يتمكّنون من النهوض لمتابعة المسيرة.
فالمتحكّم بالمنظومة يُحرّك خيوط الدمى بمهارة قلّ نظيرها، يلعب على مختلف المستويات، يُخرج أرانب قدر ما يشاء، ثم يخفيها عندما يشاء.. يوزّع الأدوار بخبث يفوق الخيال، وينتشي بمشهد الشعب على أبواب الصيدليات يستجدي مسكّناً للصداع.
يُعطي الضوء الأخضر لمفاوضات مع إسرائيل، ومن ثمّ يصدر بياناً إحتجاجياً هزيلاً يزيد من رصيد “الرئيس القويّ” في طائفته بعد اهتزاز مكانته، ثمّ يترك للصهر المعجزة أن يُعنتر ويصول ويجول ويغتال الدستور بـ”ميثاقية مناطقية”، من شأنها أيضاً أن تضيف الى الرصيد، ويتفرّج على الملتاعين في سعيهم الى السلطة.
ونتفرّج معه ونحتار لمدى تجذّر هذه المنظومة في تحكّمها بالسلطة والنفوذ بالرغم من كشف عوراتها. ونحتار أكثر لأنّ تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب أطاح بما تبقّى من أوراق تين. وبالرغم من ذلك لا تزال المنظومة مُتجذّرة وراسخة.
ونعود الى أسئلة “17 تشرين”. الى متى سيبقى هذا التاريخ رمزاً لتحرّك له جاذبيته وله نشاطاته ومهرجاناته التي تذهل من يتابعها، لكنّها وبعد عام، لم تولِّد أي نتائج من شأنها أن تحمل بذور التغيير؟؟