Site icon IMLebanon

قبل ما يسرقها الزعران…

 

 

17 تشرين الأول ليس ذكرى ميلاد حبيبتك، وليس ذكرى زواجكما ولا حتى تاريخ يوم ظهر أول سنّ لإبنك… وأغبى ما حصل من 17 تشرين حتى 17 تشرين هو إحياء ذكرى مرور سنة على اندلاع الإنتفاضة الشعبية في تلك الليلة المجيدة.

 

هل تحبّ مثلاً أن نصمّم لك قالب كاتو من وحي المناسبة مع عبارة «كلن يعني كلن» مكتوبة بالخطّ العريض، ونجلس سوياً لنختار لائحة أغاني لإحياء هذه الذكرى أمام مدافن الشهداء الذين سقطوا بسلاح الجبناء؟ أو تفضّل أن ننظّم سهرة مع عشاء فاخر ومشروب مفتوح لجميع الذين خسروا عيونهم بالرصاص المطاطي والحيّ؟

 

بعد عام من 17 تشرين، لا يمكننا سوى النحيب والبكاء على مرور 12 شهراً لم تكن كافية لإقناع غالبية المحازبين أنّ المشكلة هي في أحزابهم وليست في تحرّكات الشارع، لم تكن كافية لإقناعهم أنّ الموت يأتي من فوق الكراسي وليس من أولئك المتألمين تحت طاولات الفساد والمحسوبيات. 12 شهراً لم تكن كافية لِجزّ صوف الأغنام التي لا تزال تمشي قطعاناً خلف «الزعماعء»… يحملون ألوانهم وأعلامهم وتاريخهم المخزي، ويهتفون «ماعء ماعء» حتى بعد أن أصبح لحم الخروف أغلى من الإنسان في لبنان.

 

في 17 تشرين، ومنذ عام تحديداً، الشوارع تفاجأت بجموع الناس، المباني انصَدمت من صوت الحناجر، وحتى الاسفلت نفسه استغرب تلك الدعسات التي لا تشبه شيئاً قبلها. الجميع تفاجأ بالشوارع المقسومة التي توحّدت بمطالبها ضد الذين قسّموها، والجميع تفاجأ بالصوت الذي كان مشرذماً لسنوات فتوحّد ليطالب بحقوقه، بأمواله، بكرامته، بدولة تحميه، بمؤسسات تسهر على صحته وراحته ومستقبله… الشوارع توحّدت لتطالب بلقمة عيش غير مغمّسة بالذلّ، لتطالب بالبديهيات مثل الكهرباء والماء والطبابة والتعليم، لتطالب بمحاربة الفساد ومحاسبة سارقي حقوق الناس. من بيروت وإلى كل المناطق اللبنانية، كثرت الهتافات وعلت الأصوات وفار غضب الناس المخدوعة منذ أكثر من 40 عاماً، وشعر اللبنانيون لأول مرّة في حياتهم بحرية تسري في عروقهم وأمل يتفجّر من حناجرهم، فاجتمعوا أكثر وتضامنوا أكثر وغضبوا أكثر… فزاد خوف الحكّام، وارتجفت أرجل كراسيهم، وتلبّكت الأحزاب والتيارات الحاكمة وغير الحاكمة، وارتعد حيتان المال والسرقات والتنفيعات… بالمختصر المفيد، «الزعران فاتوا بالحيطان»، نعم هؤلاء هم الزعران الذين بعد أن هرّبوا أموالهم إلى الخارج وسرقوا جنى عمر الشعب الغاضب، وضعوا نصب أعينهم سرقة وجع الناس الثائرة أيضاً، فمنهم من انضمّ إلى صفوف الثورة ومنهم من تبرّأ منها، منهم من خوّنها، ومنهم من حاربها واصطدم بها ومارس كل انواع البلطجة والتشبيح على الناس السلميين، ومنهم من ركب على ضهر الثورة واستغلها بوقاحة، فوضع جميع هؤلاء الزعران «إجر بالسلطة وإجر بالثورة».

 

الزعران الذين انضمّوا إلى الثورة حرّفوا هتافاتها المطلبية الشعبية وأخذوا الشارع إلى حساباتهم السياسية، والذين خوّنوها باتوا يشعرون بالغيرة من السندويشات وزجاجات العصير، وتضايقوا من قبضة مرفوعة في وسط بيروت من دون أن يختنقوا من قبضة الحكّام المُمسكة بزلاعيمهم. الذين حاربوها جعلوها الشيطان الأكبر وحمّلوها كل ويلات البلد وحلّلوا ذبحها في العلن. أمّا الأوقح بين هؤلاء فهم الذين ركبوا على ظهرها وادّعوا أنهم هم الثوار الفعليين وأول من حارب الفساد، علماً أنهم الفريق الحاكم والمسؤول عن الانهيار، فأصبحوا كَمَن فسّر الماء بالماء. والماء التي كانت تجري من تحت الشعب من دون أن يدري لسنوات طويلة، تحوّلت إلى طوفان يهدّد الموجودين في السلطة.

 

17 تشرين الأول 2019 كان موعداً لولادة الشجاعة في صدور اللبنانيين وولادة الخوف في قلوب الذين تَناوبوا على سرقة البلد منذ عشرات السنوات. 17 تشرين كان موعد ولادة شعب لا يشبه القطعان التي اعتاد «الزعماعء» على خلقها وقيادتها بالشعارات الفارغة والوعود الميتة. 17 تشرين كان يوم اكتشف كثيرون أنهم ليسوا طوائف بل شعب، أنهم ليسوا مناطق بل وطن، أنهم ليسوا قطعاناً بل مجتمع.

 

17 تشرين سرقه زعران السلطة من الشارع لكن ليس من قلوب الآلاف، و17 تشرين ليس تاريخاً نحتفل بذكراه بل قناعة نعيشها حتى لو لم نكن في الشارع. 17 تشرين كان معمودية بالغاز المسيّل للدموع والهراوات لكل الفئات العمرية التي لن ترضى بعد ذلك اليوم أن تفني عمرها في ظلّ سياسات مجرمي الحرب ومرتكبي المجازر وناهبي خيرات البلد والمال العام.

 

17 تشرين لا نتذكّره في المناسبات بل نكتبه في الانتخابات.