من ثورة على “الدويلة” إلى احتضانها
لا ينفك نواب “ثورة 17 تشرين” عن مراكمة الخيبات لدى جمهور عريض وضع ثقته بهم، متوسماً الأمل في نهج سياسي مغاير، يحدث ثغرة جدية في النظام القائم على التحالف بين الفساد والسلاح. بدأ مسار الخيبة فور انتهاء العملية الانتخابية مع قيام الكتلة بـ “جولة” على مختلف الكتل لبحث مبادرتهم الرئاسية، التي بدت أشبه بسلوكيات الأحزاب التقليدية في بحثها عن تسوية بين أقطاب “المنظومة”. ثم ما لبثوا أن انقسموا إلى ثلاثة أجزاء، أبرزها كتلة “سيادية – إصلاحية” حملت اسم “تحالف التغيير”، أعادت أمل بعض المناصرين بإنعاش المسار التغييري.
بيد أن اجتماع الكتلة إياها، التي تضم النواب وضاح الصادق وميشال الدويهي ومارك ضو، مع 3 من نظرائهم في كتلة “الوفاء للمقاومة”، في المجلس النيابي بناء على طلبهم، أعاد إلى الأذهان تجربة “النواب الـ13″، كما تجربة “14 آذار” مع ما أفضت إليه من خيبات وانهيارات تحت شعار “حماية البلد”. هذا الاجتماع، وإن كان يعد استكمالاً لاجتماعات “الوفاء للمقاومة” مع مختلف الكتل النيابية، مع استثناء قوى المعارضة “السيادية” بشكل فاقع، إلا أنه يعكس في الشكل والمضمون خفة ورعونة سياسيتين في لحظة مفصلية في تاريخ لبنان المعاصر.
فعدا عن كون النواب الذين جرى الاجتماع معهم محدودي التأثير أساساً في ديناميات قرار “الحزب”، والذي صار إيرانياً خالصاً بعد “الفجيعة”، فإن الأصل في الاعتراض قائم على ما يمثله التغييريون من “معارضة ثورية”، يفترض بها الخروج عن إسار الممارسات السياسية الكلاسيكية، والتي قادت لتسليم قرار البلاد إلى “الدويلة”، وما تمخض عن ذلك من نتائج كارثية محلياً، يضاف إليها انفضاض الأشقاء العرب عنا. فهل يا ترى ثمة أي مؤشر حول تغيير “حزب الله” مقاربته السياسية يمكن الركون إليها لحصول اجتماع من هذا النوع؟ وما هي البنود التي ناقشها المجتمعون؟
حسبما صدر عن نواب “تحالف التغيير”، لم تخرج مداولات الاجتماع عن الكلام في العموميات، وسط غياب أي إشارة إلى الكلام عن “الدويلة” وسلاحها الذي يجثم على صدور اللبنانيين، ولا عن الخطاب الذي يتبناه “الحزب”، وأمينه العام الجديد، وحاشيته الإعلامية، والذي يمعن في تخوين شريحة واسعة من اللبنانيين، والتحريض ضد الجيش ومؤسسات الشرعية وقوى سياسية ووسائل إعلامية. لا شي من هذا كله، بل طلب “فتح نقاش” حول “بناء الدولة”، وهو سقف أقل بكثير مما يطالب به بعض حلفاء “الحزب” مثل “التيار الوطني الحر”.
إلا أن الطامة الكبرى تتمثل في حصول الاجتماع في توقيت تزامن مع تعرض عدد من الصحفيين والإعلاميين إلى اعتداءات جسدية، وقسم آخر إلى اعتداءات معنوية وتهديدات بالقتل، دفعت البعض منهم إلى الاستقرار خارج لبنان، يصدف أن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو الخطاب النقدي المتماسك ضد الحرب ومن افتعلها.
من الواضح أن نواب كتلة “التنظيم الإلهي” سعوا لعقد كمّ من الاجتماعات مع مختلف الكتل تحت غطاء “نيابي”، فيما قياداتهم تصر على أن “القرار للميدان، وذلك بحثاً عن غطاء معنوي للاستمرار بالحرب، وليس من أجل بحث ضرورات التسوية السياسية وقرار “وقف الحرب”. كما لم يصدر عن “الحزب”، وحتى على لسان نوابه الذين حضروا الاجتماع المذكور، أي إشارة جديدة أو مختلفة تشجع الآخرين على ملاقاتهم في منتصف الطريق.
لا مناص من التذكير بأنه عقب لحظة “14 آذار” التاريخية، سعت القوى السياسية الفاعلة فيها إلى احتواء “الحزب”، ومحاولة إنتاج معادلة مستحيلة تجمع بين الدولة و”الدويلة”، فماذا كانت النتيجة؟ تمددت “الدويلة” وتنامت، وفرضت وصاية على قرار الدولة، وصارت “كابوساً” وطنياً وإقليمياً، وفشلت كل محاولات الاحتواء المتوالية، والتي اكتست رداءً وطنياً وسياسياً تارة، ورداء منع الفتنة المذهبية أطواراً.
علاوة على ذلك، إن القبول بنظرية “رفض عزل طائفة” وفق تعريف “حزب الله” الحصري لها، ما هو إلا تأمين لغطاء سياسي له بصيغته المسلحة الحالية، والتي كان فقد جزءاً رئيسياً منها مع انهيار مفاعيل “تحالف الفساد والسلاح” غداة تطور الحرب في أيلول الماضي.
وهذا ما يقودنا إلى جملة من الأسئلة التي تفرض نفسها: ألا يتابع نواب “17 تشرين” التطورات السياسية؟ ألم يسأل كل واحد منهم نفسه لماذا يجتمع “الحزب” معهم ويلوذ بهم اليوم، بعدما خوّن “الثورة” ونسبها إلى “السفارات” وأنزل “شيعته” لتفكيك جمهرتها؟ ألا يعلم “تحالف التغيير” أن المراد من الاجتماع تظهير صورة لضمها إلى ألبوم “الحزب” الوطني، تمهيداً لطرحه على طاولة المفاوضات السياسية مع المجتمع الدولي، من أجل إعادة إنتاج “دويلته” على حساب الدولة والشعب، والإيحاء بعزلة القوى السيادية الساعية إلى استرداد قرار الدولة؟
هل غاب عن بالهم أن “الحزب” هو لبناني المنشأ والهوية، لكنه “خميني” العقيدة دينياً وسياسياً؟ إن كان “لا” فهي كارثة، وإن كان “نعم” فالكارثة أعظم بكثير. ذلك أن أي اجتماع من هذا القبيل لا فائدة سياسية ترجى منه إلا تكريس تحول نواب “17 تشرين” من الثورة على “الدويلة” إلى احتضانها، ومنحها مشروعية تلهث للحصول عليها في عز أزمتها الوجودية.