ليست قضية موت نهر الليطاني وبحيرة القرعون اللذين نعاهما المجلس الوطني للبحوث العلمية قبل شهرين من اليوم، هي ما أرغم الحكومة على تأليف لجنة وزارية لاقتراح حلول المعالجة.
هنا على جانبي الحوض الذي يبدأ من العلاق، 10 كيلومترات غرب بعلبك، قاطعاً كامل سهل البقاع، وصولاً إلى القاسمية، مصبه في بحر صور، يعيش أكثر من مليون ونصف المليون شخص، يشكل الليطاني شريان حياتهم وحبل السرة.
على هؤلاء، حكمت السلطات اللبنانية، المسؤولة وفق القانون عن الحوض، عليهم بـ «الإعدام البطيء» الذي تسارعت وتيرته مؤخراً.
وابتعاداً عن إطلاق الكلام في الهواء، تقول المعطيات الصادرة عن أهم الصروح العلمية في لبنان، من المجلس الوطني للبحوث العلمية، إلى الجامعة الأميركية، فمصلحة الأبحاث الزراعية في البقاع، ودراسات وزارة البيئة وغيرها، أن المياه الجوفية، من ينابيع وآبار ارتوازية وسطحية في حوض الليطاني ملوّثة وغير مطابقة للمواصفات، مثلها مثل الخضار والفواكه المروية من مياهه ومن السد. والأهم توثّق أحدث الدراسات (الجامعة الأميركية) إلى ملامسة نسبة السرطان لدى سكان الحوض خمسة إلى ثلاثة أضعاف المعدل العام في البلاد.
أما الهواء فيكفي المرور من بعد كيلومتر لشم الروائح القاتلة لمياه النهر وبحيرة القرعون. وهو ما دفع أهالي بلدة القرعون إلى ردم القناة 900 التي تشق بلدتهم ناقلة مياه البحيرة. وهناك على مجرى النهر بقاعاً، من العلاق إلى مصبه في البحيرة، يحرس المزارعون حيواناتهم ليس من الذئاب المفترسة بل من الاقتراب من مياه النهر، بعدما ذاع صيت رؤوس الغنم التي ماتت بعدما شربت من «مجرور الليطاني»، كما يسمّونه.
اليوم، وبعدما وصلت كارثة حوض الليطاني والبحيرة والناس إلى أوجها، شمّر الجميع في الدولة عن سواعدهم ليلعبوا دور المنقذ، متناسين أنهم هم أنفسهم مَن استقالوا من مسؤولياتهم على مدى 75 سنة بعد الاستقلال.
تقول القوانين، سواء تلك التي ما زالت سارية منذ أيام العثمانيين، ولغاية اليوم، أن وزارات الطاقة والمياه والصحة والصناعة والزراعة والداخلية وفي قلبها المجلس الوطني للكسارات والمرامل، وطبعاً مصلحة مياه الليطاني، هي المسؤولة عن حماية الحوض المائي الأكبر في لبنان.
نحن نتحدّث عن مساحة 2180 كيلومتراً مربعاً (20.8% من مساحة لبنان) منها 1468 كيلومتراً مربعاً في البقاع ليشكل 80 في المئة من المجرى، فيما يجري 20 في المئة من الليطاني في الجنوب.
تختصر الدراسات الحديثة وضع حوض الليطاني بالآتي:
«نهر الليطاني وبحيرة القرعون ماتا سريرياً»، «كل ينابيع لبنان وآباره الجوفية ملوّثة بنسبة 80 إلى مئة في المئة، بما فيها على الجبال والتلال في حوض الليطاني». «فحوص المياه والتربة والخضار في مختلف مواقع الليطاني ونهر الغزيل في البقاع تحتوي كلها على الحد الأقصى من التلوث الجرثومي».
تصل نسب السرطان في بعض قرى الليطاني وبحيرة القرعون إلى خمسة وثلاثة أضعاف المعدل العام في لبنان.
«إن مياه القرعون والليطاني بقاعاً وجنوباً غير صالحة للري لاحتوائها على جراثيم ضارة». «تمّ كشف وجود معادن ثقيلة سامة في التربة المرويّة من الليطاني، وكذلك من مياه نهر الغزيّل والليطاني على البقدونس والنعنع يصل بعضها إلى 42 ضعف النسبة المسموح بها».
كل هذا وتقود الدولة اليوم مشاريع سدود لا تقل كلفتها عن مليار دولار (من دون قنوات الجر والمحطات وكل التجهيزات الأخرى التي تفوق كلفتها كلفة السدود) لجر مياه الليطاني «القاتلة» إلى بقية أراضي الجنوب. بالإضافة إلى سحب مياه الشفة إلى بيروت.
مع المحكومين بالإعدام، مع أهالي البقاع والجنوب الذين هجّرهم إهمال السلطات وحوّل شريان حياتهم إلى سموم تقتلهم، تجول «السفير» على 170 كيلومتراً لتسلط الضوء على حياة الناس والنهر وما حلّ بهم. من العلاق في غرب بعلبك مروراً بالبقاعين الأوسط والغربي، وقرى اتحاد البحيرة على الكتف الجنوبية، نزولاً نحو أودية سحمر ويحمر وزلاية وقليا والدلافة والعيشية وجبل الريحان والخردلي ومرجعيون والشقيف والنبطية وصولاً إلى ساحل صور. الناس الذين لم تعترف بهم دولتهم وسيّبت الليطاني مكباً لنفايات الصرف الصحي ومخلفات 650 مؤسسة صناعية في قرى حوضه بقاعاً وجنوباً، كمجرى لغسل الرمول وأتربة المقالع والكسارات المخالفة في الجنوب، ومكباً للنفايات الصلبة والطبية في غالبية القرى.