كثرت الأفكار والطروحات التي التقت على التأكيد أن لبنان القديم الذي نعرفه انتهى. نجحت الجماعة المتحكمة فيه منذ أكثر من 3 عقود في إنهاء كل ما كان له من ميزات، ومنذ عقد ونيّف بدأ تداعي هيكل الدولة وتجويف المؤسسات، مع بروز الأثر السلبي القاتل لممارسة الحكم من خارج الدستور، واعتماد الاجتهادات والبدع التي تحولت إلى أعرافٍ، فرضها القوي؛ مرة السيطرة العسكرية السورية، وأخرى هيمنة «حزب الله» وكالة عن حكام طهران!
الأكيد أن كثراً ممن يرددون هذه الأيام رفضهم لهذا الواقع، وأن هاجسهم الخلاص منه، خصوصاً ممن تمّ استبعادهم عن جنة نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي، ترنو أنظارهم إلى لبنان الذي كان، والذي يتطلب عودتهم إلى مقاعد الحكم، بالقفز فوق أدوارهم التي ساهمت في تغول الدويلة، وإمساك «حزب الله» بقرار البلد من دون رادع في فرض السياسات التي تتلاءم وأجندة مصالح حكام طهران!
في تلك المرحلة كان المشرع البارع يبدأ معاركه الانتخابية بشعار: الآن سنبدأ معركة مكافحة الفساد! لكن هذا «الآن» لم يحن أوانه أبداً! وكان رئيس الحكومة يُضمِّن فذلكة الموازنة عبارة؛ الفساد مشرع بالقانون! فيعفي نفسه من المسؤولية، ويقيم سنوات في رئاسة الحكومة ولا يقدم ولو باقتراحٍ للحد من الفساد! ولا يتورع الزعيم عن الإعلان أنه تقاضى رشوة لأنه كان محشوراً، ويلفلف الموضع بضحكة!
وعلى امتداد العقد الأخير اتخذوا موقف المراقب المحايد وهم يلمسون تنامي الاقتصاد الأسود وتغول اقتصاد الدويلة الموازي! كما تعاموا عن قيام شبكة تلفزة في مربع «حزب الله» تموّلها طهران وتشرف على السموم التي «تبخها»، ولم يكن بالأمر العرضي وجود أبرز مسؤول أمني في الدويلة في صدارة اجتماع مجلس الأمن المركزي، زمن داخلية الوزير المشنوق. فأتباع هذا المسؤول باتوا يمسكون الحدود والثغور؛ من الحدود البرية إلى المرفأ والمطار، وعبثاً البحث في أي مكان عن الجهة المسؤولة عن تحويل لبنان منصة لتهريب الكبتاغون!
مقابل هذا «الطموح» يتتالى «تمنين» اللبنانيين بأن لبنان جديداً بزغ في محور الممانعة، بفعل «المقاومة» ونتيجة «انتصارات إلهية» حفظت الكرامة وصانت الحقوق (…)، ولولا هذه «الإنجازات» لكانت إسرائيل استباحت (…) ولكان «داعش» في بيروت (…)، وكل ذلك في عملية مبرمجة للانتقام من الناس الذين حافظوا على بلدٍ ضاربٍ في التاريخ، تحول لوقت غير قصير إلى واحة أمانٍ وحرية ومساحة تنوع. ساهم أهله مع توفر جملة معايير بألا تكون الإنجازات شبيهة بما تم في المحيط القريب تحت نعال الجيوش وأنظمة الاستبداد التي أقامت من السجون أضعاف ما أقامت من المدارس!
يتكرر هذا «التمنين» على ألسنة أشخاص لا تُعرف لهم كفاءة أو معرفة. ما كان ذلك ممكناً لولا نجاح «حزب الله» في جعل لبنان بلداً هامشياً. برلمانه شكلي مجهول الأعضاء؛ «يشرّع» غب الطلب، لم يسائل حكومة، ولم يحاسب وزيراً، ولم يحجب ثقة، في بلدٍ كان وطن البحبوحة، وحوّلوه إلى بلد الجوع واليأس والتهجير… أما الحكومات فكانت سلطات وهمية، يُعرف أصحاب المعالي من حجم مواكبهم، إذ لا إنجازات تذكر لأحد، من كبيرهم لصغيرهم، وقد التزموا أدواراً مرسومة! «تعايشوا» ولم يُسمع بأي محاولة للحدِّ من وطأة هذا الواقع الفج، رغم تفجر الأزمات وتفاهة المواقف الرسمية حيالها! هذا اللبنان نُكِبَ بجماعة توارثت الحكم، أو تسلطت بحكم سطوة طائفية وارتهان، فاجتذبت المناصب أناساً جمع بينهم أنهم شخصيات هامشية!
بظلّ هذا الوضع، وذروة «العهد القوي»، لم يتورع الممسك بالقرار عن فرض تعطيل مخططٍ له، فضرب بعرض الحائط شؤون الناس والمصالح الوطنية، لتسريع الانهيار وتلاشي المؤسسات وتفتيت السلطة وتغييب دور البلد! فكان ضرب علاقات لبنان الخارجية، واستدراج القطيعة مع دول الخليج العربية، وخاصة السعودية، وإصرار على قفل الأبواب بوجه أي وساطة، ما جعل التسوية أصعب من أي وقت مضى!
مع هذا النهج، ارتاح «حزب الله» للخطاب الرسمي والسياسي، ولقاء «المتعارضين» على مقولة إن السلاح مسألة إقليمية لا قدرة لبنانية على علاجها! جرى اغتيال الدستور والدوس على أشلاء البشر والتشارك في استهداف العدالة في جريمة الإبادة الجماعية في تفجير المرفأ، وعموماً تخلوا عن سلاح الموقف وعن مسؤوليتهم واكتفوا بدور المراقب الصامت! جمع بينهم موقف مشين، اعتبر دور «حزب الله» قدراً لا يرد، فتغافلوا عمداً عن أدوار رئاسة الجمهورية وشركاء تسوية العام 2016 التي أمنت لهذه الميليشيا غطاءً سياسياً عريضاً، من دونه لتأثر سلباً دور السلاح وتراجعت سطوته، وكانت مسألة كاستسهال استباحة الحدود والخرائط، فيها كلام آخر! كما التلاعب بلبنان وربط مصيره بمخططات التوسع والهيمنة لنظام الملالي!
لبنان آخر ما زال ممكناً بالتأكيد، وأغلب الظن أن «17 تشرين» رسمت الملامح الأساسية له، لبنان المصالحة الحقيقية والتنوع ونبذ التعصب ورفض الارتهان، عندما نجحت في نقل أغلبية لبنانية من مقاعد المتفرجين إلى الفعل السياسي، ما شكّل أبرز مميزات الثورة التي لم يتمكنوا من وأدها ولا تطويعها. فجعلت من استعادة الدولة المخطوفة مسألة محورية قابلة للتحقق، بقدر ما تُنجز وحدة وطنية، تجمع رافضي بقاء لبنان – المزرعة، الساعين بالسبل الديمقراطية إلى قيام دولة الدستور والحق والقانون والعدالة، لتُستعاد الجمهورية. إنه المنحى الصعب لخلق ميزان القوى المعبر عن وجع اللبنانيين، فيتبلور البديل السياسي وتستعاد السياسة، في مواجهة ميزان القوى الآخر، وعلى رأسه «حزب الله»، يحيط به كومبارس تسوية 2016 المستمرة، رغم ما أصابها من تصدع، إلى الواجهات الركيكة التي أوجدها هنا وهناك!
بهذا السياق، ينبغي التعاطي مع الانتخابات كمحطة نضالية مهمة، إن لم تؤجل كما تدل مؤشرات اعتزام التمديد للبرلمان. تفترض هذه المحطة استنباط الوسائل لإخراج الناس من حالة الاعتكاف، وهم من غطى ساحات لبنان عدة أشهر، ونجحوا في تعرية منظومة الفساد وأخرجوها من الفضاء العام. المهام متنوعة، لأن زمن السلطة المديدة أبعدت الكفاءات النظيفة والحيثيات الشعبية، فاقتصر الحيّز السياسي على متسلقين تابعين، فغاب رجال التشريع عن البرلمان، فيما انعدمت الكفاءة لأكثرية من توزروا! المهمة دقيقة لاستعادة هذه الفعاليات الشريكة الطبيعية مع «التشرينيين» وحالاتهم التنظيمية لبلورة جبهة المعارضة السياسية.
الوقت داهم لإنجاز مهام متراكمة، لكنه سيكون قاتلاً قاضياً على الآمال، لو تم استبدال استعجال توافقات انتخابية غير مبدئية بالأساس. هناك أولوية لبلورة الحالات التغييرية في الدوائر، لأن منحى اعتبار الانتخابات أم المعارك، وليس محطة على طريق التكامل الجبهوي بين الاختراقات المهمة التي ستتحقق والشارع، قد يهدد بخسائر جدية لمشروع التغيير، لأن من «جرب المجرب كان عقلو مخرب»، وبالتالي سيكون مرفوضاً من الناخبين أن يرتضوا دور المطية لقوى «إنجازُها» أنها قفزت من المركب قبل غرقه!