أمس فقد الكاردينال بشارة الراعي السيطرة على أعصابه على الهواء على «فرانس ٢٤»، ما يدلّ على حجم المأزق الذي يواجهه. وإلا فما الذي أغضبه إلى هذه الدرجة، كي يخرج عن هدوئه ورأفته الأبويّة، ويقطع الحوار المباشر من عمّان، ويغادر الاستوديو؟ لعلّ الراعي عشيّة الخطوة التي سترميه في أحضان الاحتلال، افترض أن الحوار، على محطّة صديقة، لن يتعدّى نطاق المجاملات والبروباغندا لـ «زيارته الرعويّة»، لكنّ زميلنا ميشال الكيك، رئيس التحرير في القسم العربي من المحطّة، مارس دوره كإعلامي، مشككاً في الطابع «الديني» الحصري لهذه السابقة التاريخيّة.
هناك فرق بين الرعيّة التي تقبل ما يقول راعيها من دون مناقشة، والرأي العام الذي يسأل ويشكك ويناقش. ومن نافل القول إن زيارة أعلى المراجع الروحيّة إلى اسرائيل، تتجاوز شؤون الرعيّة واطارها، لتصب في صلب الشأن الوطني والقومي.
لقد فعلها غبطته. لم يسمع توسّلات المؤمنين، وتخوّفات المواطنين، ونصائح الأقربين والأبعدين… ومضى لينحني ـــ ولو رمزيّاً ـــ أمام سلطات الاحتلال، ويغفر جرائمها المتواصلة منذ ٦٦ عاماً. أصرّ الراعي حتّى اللحظة الأخيرة على منطقه، مردّداً أن مهمّته دينيّة بحتة، وأنّه ذاهب مع الحبر الأعظم، الذي أكّد أنّه لا يلزم أحداً بمرافقته. غبطته يريد أن يستقبل البابا فرنسيس في «أراض تابعة لولايته»، وكلّنا نعرف أنّ الأرض الفلسطينيّة لم تعد ملكنا منذ 1948. وان الاحتلال يواصل الاستيطان، وتهويد القدس، وسط تواطؤ الغرب أو عجزه. فهل سيكون للبطرك موقف تضامني مع الشعب الفلسطيني في معركته لاستعادة حقوقه المسلوبة؟ هل سيدين ممارسات الاحتلال وجدار الفصل العنصري؟ هل سيطالب للفلسطينيين بحق العودة؟ أم سيلتزم الصمت، فيكون صمته تواطؤاً صارخاً؟
حتّى الذين دافعوا عن هذه المبادرة، في صفوف «يسار الربيع العربي» مثلاً، ظهّروا هدفها السياسي. ارتأت الرفيقة أولريكه أن زيارة الراعي دعم «لمسيحيي فلسطين». لكنّها نسيت أن مسيحيي فلسطين (خلافاً لإخوانهم في الدول التي فتك بها الربيع العربي) لا يحتاجون إلى دعم بصفتهم الدينيّة، بل يطلبون، بصفتهم الوطنيّة، التضامن مع كل ابناء فلسطين بوجه الجريمة العظمى. أما فك ارتباطهم عن سائر مواطنيهم في المعركة المصيريّة ضد الاحتلال، فليس الا امتداداً لسياسات اسرائيل الساعية إلى تفتيت الشعب الفلسطيني. بشارة الراعي أوّل بطريرك ماروني يزور «اسرائيل» منذ الاستقلال. وفي الأيام المقبلة، سيكون على البطرك، الذي اخترع «التطبيع الديني»، أن يقنع الرأي العام بأن زيارته لم تسهم في توريط المسيحيين العرب فحسب، بل كسرت عزلة الدولة السبارطيّة وأنسنتها، وطعنت المقاومة في لبنان يوم عيد التحرير، مع خطر اشعال نعرات طائفيّة هي آخر ما يحتاج إليه لبنان في هذه المرحلة العصيبة.