فوز فرنجية على سركيس وفلسفة الصوت ونصف الصوت التي حسمها شهاب
حددت المادة 73 من الدستور المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية، وفق النص الآتي: «قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناء على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد، وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض فإنه يجتمع حكما في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس»، مما يعني انه مع حلول الأول من أيلول المقبل، يمكن لرئيس مجلس النواب أن يحدد جلسة انتخاب الرئيس الجديد في لبنان.
منذ أول رئيس للجمهورية في العام 1926 في زمن الانتداب الفرنسي (1918-1943)، حتى الآن عرف لبنان 19 رئيسا كان أولهم شارل دباس وآخرهم ميشال عون.
ما أن اقتربت ولاية الرئيس الاستقلالي الرابع شارل حلو من سنتها الأخيرة حتى بدأ البحث عن اسم الرئيس الجديد، في وقت كانت السنتين الأخيرتين من عهد الرئيس حلو تشهد تطورات إقليمية ومحلية كبرى تصب كلها ضد عودة الشهابية تمثلت بالأتي:
بدء انطلاق عمليات المقاومة الفلسطينية من لبنان عبر الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وتنديد الأحزاب اليسارية والقومية ومنظمات المقاومة الفلسطينية بالمكتب الثاني في الجيش والهجوم القاسي عليه بسبب مراقبته الشديدة للمخيمات الفلسطينية ومحاولات منع تسليحها وإقامة التدريبات العسكرية فيها ومنع انطلاق عمليات للمقاومة من الجنوب.
تركيز المعارضة المسيحية الملتقية ضمن الحلف الثلاثي (حزب الوطنيين الأحرار بزعامة الرئيس كميل شمعون، حزب الكتلة الوطنية بزعامة ريمون إده، وحزب الكتائب بزعامة بيار الجميل) على الأخطار الثلاثة التي تهدّد لبنان وهي برأيهم: الشيوعية، الشهابية، والمقاومة الفلسطينية.
وعليه وجد الشهابيون انفسهم مستهدفين من كل أنواع المعارضات: مارونية بقيادة الحلف الثلاثي، تحالفات إسلامية – مسيحية من الزعماء السياسيين الذين أقصوا عن الحكم ويرغبون بالعودة الى جنته. واختيار المقاومة الفلسطينية لبنان قاعدة أساسية، لإنطلاق عملياتها، خصوصا بعد أيلول الأسود في الأردن.
وسط هذه الأجواء كانت البلاد تدخل أجواء الاستحقاق الرئاسي عام 1970، التي ترافقت أيضا مع تطورات خطيرة كان أبرزها ثلاثة:
– اتهام المخابرات السوفياتية الـ «كا. جي. بي» بمحاولة اختطاف طائرة ميراج لمعرفة أسرارها، وإذ نفى السوفيات بشدّة أن يكون لديهم خطط لخطف طائرة ميراج، استنكر كمال جنبلاط والأحزاب اليسارية بشدّة هذه التهمة، ووصفوها يومها بأنها من «بنات خيال أجهزة الدكتيلو» وهي من الصفات التي أخذت تطلق على «المكتب الثاني».
– تنفيذ فرقة كوماندوز من وحدة النخبة الإسرائيلية سايرت متكال، بقيادة رفائل إيتان، مساء 28 كانون الأول 1968 غارة لأربعين دقيقة على مطار بيروت حيث دمّرت 12 طائرة لشركة طيران الشرق الأوسط (MEA)، ثم غادرت من دون أي مواجهة. وكانت هذه التطورات قد استبقت قبل سنتين وتحديدا في شهر تشرين الأول 1966 بالإفلاس الغامض لأحد أهم وأكبر المصارف في لبنان وهو بنك انترا.
وسط هذه الأجواء، كان لبنان يدخل في العام 1970 أجواء الاستحقاق الرئاسي، وبالرغم من كل العوامل والأجواء غير المؤاتية للشهابيين، فإن القوى الموالية للرئيس فؤاد شهاب في المجلس النيابي وفي الأوساط السياسية والحزبية ظلت قوية ومتماسكة، وخصوصا أن مرشح الشهابيين البارز كان آنئذ هو الرئيس السابق فؤاد شهاب نفسه، لكنه رفض هذا الترشيح، رغم إلحاح المؤيدين لنهجه وحلفائه السياسيين كرشيد كرامي وصبري حمادة ورينه معوض وكمال جنبلاط وغيرهم… ورغم أن فوز شهاب كان مؤكدا لو أعلن ترشيحه، فانه أصدر في الرابع من آب 1970، قبل أيام من موعد الانتخابات الرئاسية بيانا أكد فيه عزوفه عن الترشيح.
سركيس مرشّح شهاب
كان على النواب الشهابيين وحلقة المقرّبين جدا من الرئيس شهاب من سياسيين وعسكريين، تقديم مرشح شهابي آخر، فكان بروز اسم حاكم مصرف لبنان إلياس سركيس الذي كان يعتبر ابنا روحيا لشهاب، نتيجة اختيار فؤاد شهاب له أولا، ولأنه كان مقتنعا بكفاءته وخبرته وولائه للنهج الشهابي، وخصوصا ان الرئيس شهاب كان لا يخفي خيبته من اختياره للرئيس شارل حلو.
حين كان فرنجية وسلام يلعبان طاولة الزهر
أما على مستوى معسكر المعارضة للشهابية، فكان أكثر من واحد يجد نفسه مؤهّلا لهذا الترشيح، وكان أولهم الرئيس كميل شمعون، لكن سرعان ما اتفق المعارضون من حلف ثلاثي وتكتل وسط (كان يضم: سليمان فرنجية، كامل الأسعد وصائب سلام) على ترشيح النائب سليمان فرنجية، ويروى أن الرئيس سلام كان يلعب طاولة الزهر مع النائب فرنجية، حين سأل الأول الثاني: ما رأيك بأن تكون أنت مرشح المعارضة للرئاسة، وبهذا نضمن فوزك، لأن كمال جنبلاط وكتلته سيؤيّدوك طالما ان المرشح ليس شهاب. ويرد فرنجية: ومن يقنع كميل شمعون وبيار الجميل. فيتعهد الرئيس سلام بذلك، ويتصل على الفور بالنائب كاظم الخليل ويبحث الأمر معه، فيأخذ الخليل الأمر على عاتقه، وبعد وقت قصير يتصل الخليل بالرئيس سلام ويؤكد له على موافقة الحلف الثلاثي على ترشيح سليمان فرنجية.
صوت أو نصف صوت
وهكذا أصبحت المعركة الرئاسية محصورة بين فرنجية وسركيس والتي أسفرت عن نيل فرنجية 50 صوتا وسركيس 49 صوتا في الدورة الثانية، لكن رئيس المجلس النيابي صبري حمادة رفض إعلان النتيجة لأن الأغلبية المطلقة برأيه هي النصف زائدا واحدا، وبالتالي فان هذه النتيجة هي زيادة نصف صوت فقط، فحصل هرج ومرج وفوضى في مجلس النواب، انسحب على أثرها رئيس المجلس الى مكتبه رافضا إعلان النتيجة، فكان أن اتصل النائب رينه معوض بالرئيس فؤاد شهاب ليعلمه بالإشكال القانوني الذي أثاره رئيس المجلس، فطلب إليه بأن يدعو الرئيس حمادة لإعلان انتخاب النائب رئيسا للجمهورية، وفعلا دخل الرئيس رشيد كرامي والنائب معوض الى الرئيس حمادة وطلبا إليه إعلان نجاح فرنجية، مؤكدين له انه إذا أعاد الاقتراع فسيصوّتان لمصلحة فرنجية، وهنا دعا الرئيس حمادة مكتب المجلس الى اجتماع، أعلن على أثره فوز فرنجية برئاسة الجمهورية، ومنذ انتخابه كان الرئيس فرنجية يقول كلما ذكّره أحد من النواب انه يدين له بانتخابه: «انه صوتي أنا» وليس صوت أحد آخر.
(يتبع)